*سلمان عزالدين
في جلسة خاصة، أسرَّ روائي عربي لأصدقائه، بأنه يشعر بالخجل كلما تذكر عناوين المعارك الأدبية التي كان يخوض غمارها قبل خمس أو ست سنوات من الآن، وقال بما يشبه الهمس:«لم يتبين فقط أننا كنا في واد آخر غير الوادي الذي يسكنه من يفترض أنهم قراؤنا، بل تبين أننا بالغنا كثيراً في شعورنا بالترف الفكري. وأعتقد أن الناس كانوا يسخرون منا مثلما يسخرون من بعض البرامج التلفزيونية التي كانت تعلمهم أصول الإتيكيت في حفلات العشاء، أو طريقة صنع الدجاج بالكاري.. فيما هم يخوضون معركة الرغيف الحاف كل صباح».
لم يذكر الروائي أمثلة من العناوين التي تشعره بالخجل، غير أن التكهن بذلك ليس عسيراً. فكثيرة هي المعارك النخبوية التي شغلت الأدباء والنقاد والمثقفين العرب، ودارت رحاها على الصحف ومواقع الإنترنت، قبل أن تأتي هتافات المظاهرات وأصوات المدافع لتسكتها، أو لترميها إلى زوايا ضيقة ومقاهٍ قصية..
من ذلك، مثلاً، المعركة التي أسالت الكثير من حبر المثقفين وتمحورت حول سؤال بدا لهم جوهرياً وقتئذ: «هل نحن في زمن الرواية أم في زمن الشعر؟».. وقد انقسم «المتعاركون» إلى فريقين، فريق رأى أننا في زمن الرواية «التي صارت بالفعل ديوان العرب»، فيما أصر الآخر أننا لا نزال في زمن الشعر «الذي كان وسيبقى ديوان العرب»، وقد ساق كل فريق الكثير من الحجج والبراهين الثقافية والتاريخية والسيسيولوجية والسيكيولوجية.. لدعم وجهة نظره. والطريف أن كليهما لجأ إلى الحجة الإحصائية، إذ احتج أنصار الشعر ب«الملايين من العرب الذين ما زالوا يقبلون على الشعر، قديمه وحديثه، ويحفظون أبياتاً، بل قصائد كاملة، ويرددونها ليل نهار..»، وكذلك فعل أنصار الرواية، إذ أشاروا بثقة إلى «جحافل القراء العرب الذين انصرفوا عن الشعر ليدخلوا حظيرة الرواية»..
ومعركة أخرى لا تقل شراسة، هي تلك التي فجرها ناقد معروف، عندما نشر كتاباً يسخر فيه من «البنيويين العرب»، متهماً إياهم بتضخم الذات والعيش في الأوهام. بالطبع لم يتأخر البنيويون في الرد، إذ كشف بعضهم أن الناقد المهاجم «مرتد».. أجل مرتد! فهو «كان بنيوياً ثم نكص إلى مدرسة النقد الجديد». وقد تساءل صحفي، يومئذ، ساخراً:«نعلم حكم الردة في الدين، ولكن ما هو حكم الردة في النقد الأدبي؟».
ولقد استمرت المعركة شهوراً، وشاركت فيها ملاحق أدبية ومواقع إلكترونية متخصصة وغير متخصصة، واستُعرضت خلالها مصطلحات من العيار الثقيل، ودوائر وأسهم ومعادلات شبه رياضية.
هناك معارك أخرى اقتصرت على نطاق محلي، كالسجال الذي نشب في أحد البلدان العربية بين شعراء الثمانينات وشعراء التسعينات، وقد اتسم السجال بالسخونة والمواقف الجذرية الحادة، ما دفع الكثير من القراء إلى التساؤل عن ذلك الحدث الجلل الذي حصل في اليوم الأخير من العام 1989، أو في اليوم الأول من عام 1990، وصنع هذه الهوة السحيقة، مقسماً التاريخ الشعري إلى ما قبل وما بعد..؟!
ولكن ما الذي يبعث على الخجل من مثل هذه المعارك؟ هل يتحتم على الأدباء أن يبتعدوا عن الاهتمام بقضايا تخصصية، وأن يتنصلوا من الدفاع عن وجهات نظرهم الجمالية والفنية والتقنية.. طالما أنهم يعيشون في مجتمعات متخلفة تغمرها مشكلات اقتصادية واجتماعية ومعيشية خانقة؟
هل عليهم، عوضاً عن الانشغال بالسجالات الأدبية، أن ينخرطوا في قضايا الخبز والمحروقات والرواتب، أو أن يتحولوا إلى نشطاء سياسيين يتفرغون للدفاع عن المظلومين والمهمشين؟
ليس هذا ما يسبب الحرج للروائي المشار إليه، ولا لغيره ممن يشاطرونه موقفه هذا. مصدر الحرج، على الأرجح، هو إدراك متأخر أن معظم المعارك كانت تدور حول قضايا مستوردة، وليست نتاجاً طبيعياً لواقعنا ولحياتنا الثقافية.. من هنا تأتي شبهة الترف، فالقضايا التي انشغلنا بها تكتسب معناها ووجاهتها في بلدان أخرى غير بلداننا، وفي سياق اجتماعي وثقافي مختلف عن سياقنا.
ما مبرر الانشغال، إلى هذا الحد،بسؤال «في زمن أي نوع أدبي نعيش»، إذا كانت كل المؤشرات تقول إننا نعيش بالفعل في«زمن الأمية الثقافية»؟، وما معنى الحديث عن «زمن الرواية» إذا كانت الرواية الأكثر رواجاً، في بلدان عربية كثيرة، هي التي تبيع بضع مئات من النسخ؟
وما أهمية الصراع بين شعراء الثمانينات وشعراء التسعينات، إذا كانوا جميعهم مجهولين تماماً، ليس عند أكثرية الناس، بل عند أكثرية القراء؟.. وكيف نتعاطى بجدية مع مقولة «زمن الشعر» إذا كان الشعراء المشهورون عندنا هم أربعة أو خمسة من الشعراء الأموات؟.
وما معنى أن تثار معركة بين «النقد البنيوي» و«النقد الجديد» في وقت يكاد فيه النقد العربي برمته أن يكون غائباً عن المشهد الثقافي؟
وما جدوى كل ذلك في بلدان تضم من القراء ما لا يتجاوز، إلا بالكاد، عدد الكتاب والشعراء؟
المصدر لكل هذه البضائع المستوردة هو عالم «ما بعد الحداثة».. هناك حيث أُعلن موت «السرديات الكبرى» وانتعاش «الجزئيات» و«التفاصيل». وكان استيراد هذا «الموت» وهذا «الانتعاش» سيغدو مفيداً لنا لو عنى، فقط، الإطاحة ب «القضايا الكبرى» الزائفة التي رسختها الأيديولوجيات الرسمية العربية، وباعتها لنا على شكل شعارات رنانة و«كليشهات» فارغة.. ولكن «ما بعد الحداثيين»، العرب أطاحوا في طريقهم بكل الأسئلة الجدية والشواغل الفعلية التي ينطوي عليها واقعنا: سؤال الحرية (حرية الرأي والتعبير وحرية الكاتب أساساً)، حق الإنسان في العيش بكرامة، العدالة الاجتماعية، موقع الثقافة في المجتمع، طبيعة السياسة المهيمنة، دور النخبة الثقافية في مسعى الخروج من التخلف الشامل، القيود الاجتماعية والسياسية المفروضة على العقل والإبداع، العقلانية الغائبة والتنمية المهدورة.. وقد جاءت الأحداث الأخيرة لتثبت أن هذه الأسئلة وهذه الشواغل لا تزال الأكثر راهنية وإلحاحاً.
لا نملك، كقراء، سلطة تخولنا تحريم النقاش في أي موضوع، أو منع الكتاب من الانشغال بأي قضية، حتى ولو كانت تندرج في باب الترف. مثل هذه السلطة ستقودنا إلى نصب محاكم تفتيش، وتعيدنا إلى زمن كانت فيه الشواغل الجمالية والمتعوية موضع تأثيم.
خلاف ذلك، نعتقد أن لنا حقاً يخولنا مطالبة الكتاب بإعادة ترتيب أولوياتهم، وإعادة توزيع مساحات انشغالاتهم.. عندها نصير جمهوراً وفياً لمعاركهم.. التي ستصبح معاركنا نحن أيضاً.
_____
*الخليج الثقافي