*أمير تاج السر
الذين قرؤوا رواية “المئوي الذي هبط من النافذة واختفى”، للكاتب السويدي: يوناس يونسون، والتي تحولت بعد ترجمتها إلى لغات عدة، إلى نص مطلوب بشدة للقراءة، ويحقق مكاسب مادية ومعنوية كبيرة، لا بد أنهم استمتعوا كثيرا بكمية المرح التي تتدفق عبر سطور الرواية.
فالمئوي ألن الذي قفز من النافذة كان يؤدي دورا مرحا، تمثل في وصف الكاتب له، في الشكل والمشية والكلام، واستخدامه لتصرفاته -اللامبالية حد الإدهاش- في رسم كاريكاتيرات عديدة، أيضا في الشخوص الذين التقاهم ألن بعد أن فر من بيت المسنين، في يوم عيد ميلاده المئة، واستند بهم النص في تدفقه.
وقد رسم الكاتب هذه الشخوص بريشة ساخرة، مثل شخصية اللص المسن الذي التقى ألن في محطة القطارات المهجورة، ورافقه في فراره حاملين حقيبة مسروقة من عصابة مخدرات، وأعضاء العصابة أنفسهم، من اسم مجموعتهم: “ليس ثانية أبدا”، إلى ألقابهم المضحكة كالبرغي، والسطل، وشخصية صاحب بسطة النقانق بني، الذي رافق المسنين ألن وصاحبه كسائق لهما في البداية، ثم شريك بعد ذلك في محتويات الحقيبة, إنه شخصية فذة، فقد تعلم على مدى ثلاثين عاما عشرات الصنع، ولم يكمل تعلمها حتى النهاية، فأصبح شبه طبيب وشبه بيطري وشبه مهندس وشبه حداد، وشبه كناس، وشبه أي مهنة قد تخطر على بالك.
شخصيات وواقعية
ثم تأتي شخصيات النساء، فيمنحك النص شخصيات نسائية غريبة أيضا، تتمنى لو أن أدوارها تستمر حتى النهاية، مثل شخصية الجميلة التي سقط بني في حبها حين استضافت الجميع في مزرعة ريفية أثناء الفرار من السلطة وعصابة: ليس ثانية أبدا بحقيبة محشوة بملايين الكرونات.
الحكاية تروى بعادية شديدة، كأنها حكاية واقعية فعلا، وتاريخ ألن الحافل ذي المئة عام، يروى بعادية أيضا لا تحس بأن المؤلف يبالغ فيها، بل تحس أن الأحداث قد وقعت بالفعل، والرجل الذي من المفترض أنك تقرأ ماضيه وحاضره كبطل خيالي، قام بإنقاذ الجنرال فرانكو حين ذهب إلى إسبانيا وشارك في الحرب الأهلية بتفجير الجسور، وكان في الأصل خبير متفجرات منذ طفولته، فجر أماكن كثيرة في محيطه، وانتهى الأمر بتفجير منزله الشخصي قبل أن يغادر منطقته في السويد إلى كل الدنيا بعد ذلك.
ألن هذا، داخل النص طبعا، وصل إلى الشواطئ الأميركية، في باخرة ركبها من إسبانيا بعد أن انتهت الحرب الأهلية هناك، ليتم استجوابه من قبل الأميركان، ومن ثم إلحاقه في وظيفة أشبه بوظائف الفراشين في مختبر نووي في إحدى المدن الأميركية البعيدة، ليتدخل في صناعة القنبلة الهيدروجينية، بأن يعلم العلماء كيف يفجرونها، وبالتالي سنعتبره ركنا أساسيا في تلك التفجيرات النووية التي محت بها أميركا مدنا، وأبادت شعوبا كما هو معروف في هيروشيما ونغازاكي اليابانيتين، وفي ذلك المختبر التقي بالرئيس هاري ترومان وتصادقا لدرجة أن ينادي رئيس الولايات المتحدة باسم هاري ويناديه الرئيس ألن، ويشربا عددا من زجاجات الفودكا.
سخرية ومرح
هذا المشهد الساخر كان متقنا كفاية في مرحه ليمنح المشاهد ابتسامات عدة متتابعة، الرئيس يصاحب السويدي الذي لم يكن أكثر من مساعد متواضع أو فراش، في مختبر سري وحيوي، وبغض طرف صداقته عن العلماء الذين يحملون جميعا درجة بروفيسور، هكذا، ثم لتمضي الرواية حاملة داخلها قدرا كبيرا من السخرية والمرح كما ذكرت.
رواية المئوي الذي قفز من النافذة واختفى، ذكرتني بجدارة برواية عربية تشابهها في المرح، الذي كتبت به، ورسم به شخوصها، هي رواية: أبو شلاخ البرمائي للأديب السعودي الراحل غازي القصيبي، والتي كتبها منذ سنوات طويلة، وبالطبع سابقة لرواية المئوي.
إنها رواية لطيفة، ساخرة بامتياز، وفيها شخصية البدوي أبو شلاخ الذي كان يقيم في الصحراء عاملا في شركة النفط، ثم تقلب في الأدوار المرحة، والمستحيلة طبعا لولا الرسم الساخر للرواية، الذي يميزه القارئ من الصفحات الأولى.
لن يحيل القارئ أي شيء إلى المنطق، ولا بد أن يلغي رأسه وهو يتتبع قفزات أبو شلاخ، من بدوي بسيط، إلى مسؤول كبير في شركة حيوية، إلى زوج لابنة مدير أجنبي، إلى مسافر في مهمات وطنية، ثم بالضبط مثل ألن بطل يوانسون، سيكون ضيفا على الرئيس الأميركي وصديقا له.
لقد نجحت رواية السويدي يوانمسون لأنها رواية كتبها أوروبي، وترجمت إلى عشرات اللغات، ولا أعتقد أو لم أسمع أن رواية غازي ترجمت حتى إلى لغة واحدة مثل الإنجليزية أو الفرنسية، وهي في رأيي لا تقل فراسة ولا ذكاء مرح عن رواية يوانسون، وفيها من مواقف الإدهاش ما يجعل القارئ فاغر الفم والعينين، طيلة فترة القراءة.
أبو شلاخ هو ألن العربي، وقصته التي أضحكتنا وصنعت للقارئ العربي يوما أو يومين من المتعة الساخرة كانت تحتاج إلى أن تنتقل لقارئ آخر يزيدها تفاعلا، ولا أعتقد أن ذلك حدث بحسب علمي.
التقاء الطرح
التقاء الرواية الغربية والعربية في هذا الطرح اللطيف يقودني إلى شيئين، أولا يؤكد على أن المرح لغة عالمية وليست حكرا على شعب من دون شعب، فكما كان شارلي شابلن أميركيا مرحا، ومستر بين إنجليزيا مرحا، كان إسماعيل ياسين عربيا مرحا، وكذا يوجد بالتأكيد في أي مكان في العالم.
الشيء الآخر هو مأزق الأدب العربي الذي لن يستطيع الخلاص منه بسهولة، أو لن يتخلص منه على الإطلاق، وهو عدم التصديق بأنه أدب جيد ورفيع المستوى حتى بالنسبة للغربيين الذين قرؤوه وأعجبهم، وأحيانا لبعض القراء العرب أنفسهم، الذين ما أن يسألوا عن كتابهم المفضلين، حتى يأتوا بأسماء غربية ربما ليست معروفة جيدا حتى في بلادها، ولم يسمع بها أحد سواهم.
لذلك وحتى لو ترجمت رواية غازي فلا أعتقد أن أحدا سيصدق أنها من الروايات الذكية المرحة، وكانت تتنقل ببطل بسيط إلى موائد الرؤساء قبل أن يكتب يوانسون روايته ربما بخمسة عشر أو عشرين عاما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المصدر: الجزيرة.نت