*خيري منصور
في أحد حواراته يقول ميشيل بوتور صاحب الكتاب الشهير «عبقرية المكان»، الذي كتب بحوثا عن اللغة العربية أثناء إقامته في القاهرة، إن لديه على رف المدفأة خبزا يكفيه مئة عام.
وكانت تلك الإجابة في سياق الحديث عن الممكن، أو ما لم يتحقق بعد، ومسألة تحقيق الذات هاجس بشري مُزمن، لكن أشكال أو أساليب تحقيق الذات هي التي تتباين بين إنسان وآخر. تذكرت ما قال بوتور وأنا أقرأ حواراً أجري مع الفيلسوف ميشيل لكروا، لكن من منظور فلسفي ووجودي، وهناك من المصطلحات، ومنها تحقيق الذات ما يعاني من التباسات لا حصر لها، فالخلط مستمر بين تحقيق الذات بالمعنى الذي يتجاوز معايير النجاح المادي والبحث عن الاعتراف من الآخرين، وبين اشباع الرّغبة، حتى لو كان سرابياً وفي المجتمعات التي لم تتبلور فيها شخصية الفرد غالبا ما يصبح تحقيق الذات وهمياً، كالنّسب الاجتماعي أو الانتماء إلى طبقة معيّنة، فالفرد في هذه الحالة يولد متحققا، أو هكذا يتصور، ليكتشف في خاتمة المطاف وبعد فوات الأوان، أن كل ما تخيله عن تحقيق الذات مجرد وَهْم، أو صفات ممنوعة من الصّرف.
في الحوار الذي أجراه جان فرانسو دورتي مع الفيلسوف ميشيل لكروا وترجمة الزواوي بغورة ونشر في مجلة «الثقافة العالمية»، نجد مدخلاً آخر إلى تحقيق الذات، الذي لا يعني بالضرورة إرضاءها أو تملق نرجسيتها، لأن تحقيق الذات بهذا المعنى الوجودي أهم من السّعادة، أو الانتشاء بالنجاح لمجرد أنه تفوق على الآخرين.
ويستشهد لكروا بعبارة لهايدجر هي، إنني أمثل وعداً بالإمكانات، وبهذا المعنى يكون تحقيق الذات إطلاقا وتفجيرا لهذه الإمكانات الهاجعة، ولهذا الكلام بعد فيزيائي يتجلى في مصطلح الوجود بالقوة أو نظرية الاحتمالات، ومن حققوا ذواتهم أدركوا منذ البدء أن لديهم براعم قابلة للتحول إلى عناقيد، فتعهدوا رعايتها وسقايتها معرفيا، لأن هناك في المقابل أصحاب إمكانات ومواهب ينتحرون عقليا وهم لا يعلمون. ومن معوقات تحقيق الذات وإجهاض نموها كما يقول لكروا الإحباط والعصاب وما ينتج عنهما من اكتئاب، لكن هناك سبباً آخر يبدو أن الحوار مع الفيلسوف لم يتسع له، هو أن البعض ممن يسعون إلى تحقيق الذات يسلكون ما يظنون أنه أقصر الطّرق، ويكون معيارهم لقياس منسوب تحقيق الذات نسبياً، على طريقة العور في بلاد العميان، وهؤلاء تستبد بهم المراذلة كبديل للمفاضلة، بحيث يصبح الأقل قبحا هو الأجمل والأقل رداءة هو الأجود، إنه تحقيق زائف للذات، يتأسس على خديعتها، وبالتالي الانصراف المُتعمد عن كل نموذج من شأنه أن يفسد هذا المعيار. ولو أخذنا المثقف أو من يشبهه في المجتمعات المتخلفة مثالاً لوجدنا أنه يتقن الكَرّ عندما يتعلق الأمر بمن هم دونه وعياً، لكنه يلوذ بالفرار، بل يتقن الفرّ إذا أحسّ بأن هناك من سيفسد عليه وهمه ويضبطه مُتلبساً بخديعة الذات، فكما أن هناك حملاً كاذبا وفجرا كاذبا وماء كاذبا هو السّراب، هناك أيضا كما يقول أزوالد اشبنغلر تضاريس كاذبة تبتدعها العين الكليلة، كما تبتدع عين المذعور في الظلام أشباحاً لا وجود لها في الواقع، وحين يسأل المحاور لكروا عن عبارة لأندريه جيد هي أنه يملك في ذاته ألف إنسان، ولا يستطيع أن يكون واحداً منهم، يجيب أن السّعي إلى تحقيق الإمكانات كلّها هو أخطر المحاولات، فالرغبة في القيام بكل شيء لا تنتهي إلى شيء لأن ذلك لا يتجاوز حلم المراهقة.
كأنه يذكر القارئ بأن من يحاولون قول كل شيء لا يقولون شيئا على الإطلاق، وأن الادعاء بالقدرة يفتضحه العجز الذي يتفاقم في المسافة بين الرغبة والقدرة على إشباعها، لهذا كلما اتسعت هذه المسافة يكون الفرد عرضة لصدمة قد تؤدي إلى انهياره العصبّي، إنه يذكرنا بتلك الموعظة التي ورثناها كعرب وهي، رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، فمعرفة الذات شرط لوعي الآخر والذكي هو من يعترف بأن هناك من هو أذكى منه لهذا يحرص على شحذ ذكائه وتغذيته بالمعرفة، بعكس الجاهل الذي يرفل في نعيمه ولا يدرك كم هي مساحة جهله لأنه آخر من يعلم بها.
إن موضوع تحقيق الذات بالمعنى الذي يتخطى النجاحات الاجتماعية أساسية من الناحيتين التربوية والمعرفية، خصوصاً في عالمنا العربي الذي غالبا ما يساء فيه فهم هذا المصطلح فإن تحقق ذاتك هذا يعني أن تكون أنت وليس سواك، وهذا بحدّ ذاته مُعْطى وجودي وشرط ليس ميسوراً تجاوزه إلا لمن قرروا منذ البدء أن يواجهوا ذواتهم كما هي، وأن ينأوا بأنفسهم عن التقمص والتماهي وسائر فنون التقليد التي توهم المرء بأنه على غير حقيقته.
إن ما يسميه لكروا الإمكانات قد يسميه آخرون المواهب، أو الاستعداد الفطري، لكن الفارق هو في وعي هذه الإمكانات وليس في تخيلها على نحو إسْقاطي، حيث لم يعد لأسطورتي جبل الأولمب ووادي عبقر تلك الفاعلية التي توهمها الناس في الماضي بحيث يزهو شاعر على آخر بأن الشيطان الذي يلهمه ذكر وليس أنثى.
وقد يكون تحقيق الذات بالمعنى الذي حاول الفيلسوف تكريسه هو أهم وأنبل ما يمكن للإنسان أن ينجزه، لأنه بذلك يكون قد تعرف إلى ذاته أولاً، وبذل من الجهد ما يكفي لاستبطانها والتعرف على شعابها، بعيداً عن السّطح وغواياته التي تستدرج معظم البشر إلى تلك البحيرة، بحيث تفتنهم صورتهم ويغرقون كما حدث لترسيس، الذي نسي أو تناسى أن هناك في هذا الكون مشاهد تستحق أن يتأملها بعيداً عن المرايا!
_______
*المصدر: القدس العربي.