لغة آدم



*حبيب سروري


 
ثمة سؤال ممتع برز في حوار جماعي قاد للحديث عن أصل اللغة ونشأتها: “ما أعظم حدثٍ غيّرَ تاريخ الإنسان؟”. ردّ أحد المساهمين سريعاً: “الكمبيوتر”. ردّ آخرُ، يختنق ما لم يكن موصولًا بشبكة الإنترنت، ويرى أننا في عصرٍ صارت فيه الشبكة أهمّ من الكمبيوتر، إذ بها يستطيع عمل كل شيء ولو بالهاتف أو الآيباد: “الإنترنت”. وأجاب آخر: “لا، الأهم قطعاً؛ الكهرباء، أجمل بنات القرن 19. فما الإنترنت والكمبيوتر بدونها؟”. 
توالت الردود تُعدّد منعطفاتٍ جوهرية حاسمة، تغوص في الماضي أكثر فأكثر. قال أحدهم: “تدجين الكلب قبل 150 ألف عام هو الأهم. حمى الكلبُ بشراسةٍ ووفاء، الإنسان المنبوذ في عراء أديم السافانا الأفريقية وساعده على الصيد. كان الإنسان الأوّل يدين له بكل شيء. يقيم حفلات تأبينٍ له عند الموت كما يفعل لذويه. أمّا بشرية اليوم، فقد انقطع من جبينها عِرق العرفان بالجميل، ولم تحتفل بعد بمرور1500 قرن على صداقة الإنسانِ والكلب”. 
كان السؤال الممتع قد شغلني قبلذاك بزمن؛ ثمّة، في الحقيقة، حدث جوهري، تفوق أهميته كل الأحداث التي ذكرها أصدقائي، ولولاه لما كان الإنسان إنساناً بكلّ بساطة. وقبل سؤال الممتع، ثمة سؤال ممهّد: ما لغة “الإنسان الأوّل”، أو “لغة آدم”، كما تسمّيها مجازاً بعض الكتب العلمية؟ وبتحديد أدق: ما لغة الرعيل الأوّل من بشر السلالات الإنسانية القديمة؟ أي بشر شجرة السلالات التي انتقلتْ فروعها من نوع إنسانيّ إلى نوع من “آدم لآدم” وفقًا لقول أبي العلاء المعرّي، بصيغة حلزونيّة عبقرية استشعرتْ “شجرة الأوادم”، قبل عشرة قرون من اكتشافات حفريات العلم الحديث: “جائزٌ أن يكونَ آدمُ هذا/ قبلَهُ آدمٌ على إثرِ آدم”؟. 
بعض أهم فروع الشجرة التي تؤكد صواب حدس شاعر الفلاسفة، المدجّج بالحواس السادسة والسابعة والثامنة: “هومو إيبيليس”؛ الإنسان الحاذق، الذي استخدم الحجارة الحادّة كآلات بدائية للدفاع عن النفس والهجوم على الحيوانات الضارية، قبل أكثر من مليوني عام. ومن بعده “هومو أريكتوس”؛ الإنسان المنتصب، الذي صنع الفؤوس قبل حوالي مليون ونصف مليون عام. ويليه “هومو نارانس”؛ الإنسان الحاكي، الذي بدأ يسرد ويخترع أوّل القصص البدائية بنواة لغة جنينية من كلمات متراصّة من دون بناءِ جمل، بعدما تطوّرت وتوسَّعت مناطق اللغة في عصبونات دماغه. لعلّه سلف شهرزاد الذي اخترع الصيغة السحرية الخالدة؛ “كان يا ما كان” وأخواتها. ومن بعد الثلاثة، نصل بيت القصيد، قبل حوالي خمسين ألف عام فقط؛ “هومو سابيانس”؛ الإنسان الحديث، الذي يتوّج رأسه دماغ إنسان اليوم نفسه، وله جغرافية العصبونات نفسها، بكلّ ملَكاته التخيلِيّة واللغوية الراقية، وبكلّ قلقه الوجوديّ وتفكيره المحموم، وبكلّ هوسه باختراع ألف سيناريو وسيناريو، يفسّر بداية الحياة على الأرض ومآل الإنسان بعد الموت. 
اندلع أهم حدث في تاريخ الإنسان بين منعطفين تاريخيين مفصليين سبقا تدجين الكلب واكتشاف النار بأكثر من مليون سنة. الأوّل، لحظة استخدام “هومو إيبيليس” الحجارة كآلات بدائية. والثاني، لحظة استخدام “هومو أريكتوس” الفؤوس. 
وقبل هذين المنعطفين الحاسمين بملايين السنين، كان أجدادنا الأول يعيشون في أطوار بدائية جداً فوق أشجار أفريقيا، قبل أن يحلّ على الأرض جفاف هائل لحق عصراً جليديّاً عمّ المعمورة. أدّى الجفاف رويداً رويداً إلى استبدال غابات شرق أفريقيا بأديم السافانا، وإلى هبوط أجدادنا من أشجارهم الذاوية إلى الأرض. فيما ظلّت غابات غرب أفريقيا مأوىً لكبار القرود التي استمرّت تسكن أعاليها، وتعيش وتتطوّر بشكل مختلف عن أجدادنا الذين هبطوا من “جنّة” أعالي أشجارهم إلى الأرض، لِيبدأوا حياةً مختلفة في عشٍّ جديد. 
صارت السافانا حضن جدّنا الأول، احتاج فيها إلى المشي على ساقين، والانتصاب لرؤية الضواري البعيدة وما وراء الأكمات، ولرمي الحجارة بشكلٍ أفضل. خلال بضعة ملايين سنة، انتصبَ ظهره كما تكشف الحفريات المتعاقبة، وتمكّن من المشي بِفضل تلاؤم جسده وبنيان مفاصله وحركتها مع بيئته الجديدة، أكثر من غيره. واحتلّ دماغه العموديُّ على جسده موضعاً متميّزاً مؤهلاً لأن تنمو فيه مساحات وملَكات جديدة، تتواصل وتنضمّ مع بعضها. 
لكن لم تكن لجدّنا قبل المنعطفين التاريخيين الجوهريين لغة. ولم يختلف بذلك عن بقية الحيوانات وهي تتبادل إشارات صوتية عند الشعور بالخطر جرّاء رؤية أو سماع صوت حيوان مفترس. كانت تلك النبرات كل قاموسه اللغوي الغريزي الذي لا حاجة لتعلّمه. إذ هو ليس بقاموس كلمات، بل منظومة تواصل غريزية مغلقة، لا علاقة لها بلغات الإنسان الحديث، المفتوحات إلى ما لا نهاية. وهي منظومة مطابقة لمنظومة التواصل لدى النحل والنمل، تشبه صوتًا معروفًا للقردة اليوم، مدلوله: “هنا أسد”، وآخر “هنا ثعبان”. المثير جدّاً أنه عند تسجيل الصوت الأوّل على شريط، وإسماعه لمجموعة قردة في الغابة، ينُطّون بهلع إلى أعلى الشجر للاختباء، لكنهم لا ينطّون إليها عند الصوت الثاني، بل تتسمّر نظراتهم في الأرض، وإن لا يقلّ هلعهم عند سماعه. 
فالحدث الواحد الأوحد، و”الألفا والأوميغا”، وجذر الجذر، وشرارة بدء الأنسنة، ليس إلا رحلة تطوّر اللغة الإنسانية، وهو موضوع لا حدّ لثرائه وغناه، يُكثّف تاريخ الإنسان كلّه. أقصد؛ رحلتها منذ النبرات الغريزية: “هنا أسد”، وحتّى قصيدة “فصل في الجحيم” لرامبو، أو”الجدارية” لمحمود درويش. 
رحلة ساحرة مدهشة، لولاها لما سمعنا شاعراً يقول لنا ذات يوم: “جاءت مُعذّبتي في غيهب الغسقِ”؛ يبوح لنا بسؤالهِ لـ”معذِّبتهِ”: “أما خشيتِ من الحرّاس في الطرق؟”؛ قبل إجابتها المذهلة “ودمعُ العين يسبقها”: “من يركب البحر لا يخشى من الغرق”، وما يلي الحوار من فضاء إيحائيّ حميم، صمت عن سرده الشاعر ليترك القارئ يتصوّره مرتعشاً ملتهباً كما يحب. 
فلو تأمّلنا يوميات أجدادنا وظروف حياتهم أثناء المنعطفين التاريخيّين، وحاجتهم العضوية بينهما لتجاوز منظومة الاتصالات الحيوانية الغريزية، وكيف أدّى ذلك إلى اندلاع نواة ومداميكِ لغة بدائية جداً، لوصلنا إلى أن أعظمَ وأهمَّ وأسمى حدث في تاريخ الإنسان، لم يكن إلا اللغة. فاللغةُ مفتاح الطبيعة الإنسانية: كل ما يميّز الإنسان على سائر الحيوانات مسراهُ ومجراهُ اللغة: حديثه اليومي، كتاباته وقراءته، علاقاته بالآخر وبنفسه، تفكيره، وعيه ولا وعيه. 
فما الكومبيوتر والإنترنت والكهرباء، إن لم تكن ثمّة لغة إنسانية للتفكير بها واكتشافها؟ وما الانفجار الكوني الكبير قبل 13.7 مليار عام، وما اكتشاف وجود الماء على المريخ قبل أسابيع فقط، إن لم تكن ثمّة لغة للحديث عنهم جميعاً؟
_______
*العرب الجديد

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *