لغة العتمة


*د. شهلا العجيلي

قضيت سنة ثقيلة!

كان لرفيقتي في السكن نزوع غريب، تعاقبني به كلّ يوم: تستيقظ صباحاً، وتروي لي الحلم الذي رأته في اللّيل! وكان ما يثير العجب أنّها تحلم كلّ يوم تقريباً، وأنّ أحلامها أشبه بقصص محبوكة، على غير عادة الأحلام التي أعرفها، والتي تكون غالباً مشاهد غائمة، أو متشرذمة، ونادراً ما تشكّل سرديّة مترابطة، أو تتكشّف عن وجوه واضحة.
كانت رفيقتي تبحث دائماً عن تفسيرات لأحلامها، وكنت أجدني مضطرّة لأدلّها على بضع إشارات فرويديّة، وفاقاً لقراءاتي في تلك المرحلة، وأحياناً ألوي عنق الأشياء، لأحملها على التفاؤل، وأقنعها بأنّ ما تراه ليس أكثر من مخاوفها، ورغباتها، وما هو بنبوءات أو رؤى قدّيسين. كانت ترى في أحلامها كلّ شيء تقريباً: الأنبياء، والزعماء السياسيّين، والعائلة، والحبيب، والوحوش، والطعام، والمفاتيح..
اكتشفت لاحقاً أنّ ما كان يزعجني في أحلامها، ليس الملّل، فروايتها جاذبة، وليس الحرص على الوقت أو الخوض في تفاصيل لا تعنيني، بل الخوف! كنت أخاف من أحلامها، وأخاف من أن تمسّني تلك الأحلام أنا شخصيّاً، فثمّة في داخلنا منطقة بدائيّة، تبقى جيناتنا الثقافيّة حاملة لها، مهما مضينا في دروب الحداثة، وإذا ما نبشنا في تلك المنطقة، سنجد أنّنا نخاف من الأحلام ذاتها التي خافت منها الجدّات، وقد يبدو هذا الخوف أوضح عند الذين ينتمون إلى مجتمعات أكثر ترابطاً.
تشكّل الأحلام نوعاً من أنواع التعبير، إذ تشير إلى أهميّة الأشياء بالنسبة إلينا، مهما كانت تلك الأشياء صغيرة، وبعيدة، كما تكون أحياناً نوعاً من أنواع الذاكرة، وقد أولاها الرومانتيكيّون عناية خاصة، لاسيّما غوته، وفولتير، بوصفها إحدى مسرّحات الخيال، فكانوا يفرحون بالحلم مثل فرحهم بحالة حب، فالحالتان ملهمتان للكتابة.
غالباً ما تكون الأحلام كنايات عن مخاوفنا، وأخطائنا، وأشواقنا، ورغباتنا، ويعبّر بترون عن ذلك بقولٍ حلوٍ: “إنّ كلّ ما يفرّ من الضوء، يفعل فعله في العتمة”. لقد حاول أصحاب المنهج الأسطوريّ إيجاد المشترك بين أحلام البشر، وعلى الرغم من أنّ تجلّيات الأحلام فرديّة، يمكن أن نقول إنّ الحلم ظاهرة ثقافيّة، إذ لابدّ للخاصّ من أن ينبض بنبض العامّ، يدلّ على ذلك طبيعة اللّغة التي نحلم بها، ونوعيّة أحلامنا في غالبيّتها، فالذين يعيشون في ظلّ الحرب يمتلكون مكوّنات أحلام مشتركة، ذات حقول دلاليّة مختلفة عنها لأولئك الذين يعيشون في أمان، وأحلام الذين يعيشون في ظلّ الديمقراطيّة، ستختلف في أفقها العام عن أحلام الذين يعيشون في ظلّ الاستبداد.
ثمّة أحلام لها طعم مرارة لا يمكن محوه، وثمّة أحلام يستحيل نسيانها، وأخرى تتكرّر، ونتمنّى لو ننجو منها، كأحلام الغياب، والامتحان، وفقدان الصوت عند طلب النجدة.. ونعمد أحياناً إلى صناعة الحلم، فنجهد أنفسنا بالتفكير بوجوه أحببناها وفقدناها، فنفشل في لقائها، لأنّ مسرح الحلم يأبى أن ترفع ستارته قسراً، ولعلّ الطريقة الأجدى هي أن نمرّر طيف الأحبّة بخيالنا تمريراً وئيداً، ونتركه لينسحب، عندها يعود في المنام أكثر تمكّناً!
وطالما كان الحلم طريقة من طرق الكدية (الشحاذة) على أبواب الملوك والأمراء وأهل العطاء، إذ يذهب السائل إلى أحدهم ليقول له إنّه رأى حبيبه المتوفّى في المنام يخلع عليّ خلعة، أو يعطيه أعطية!
هناك أحلام مفيدة، يقال إنّها استمرار لنشاط العقل في مستوى غير عميق من مستويات النوم، تلك التي توصل إلى حلّ رياضيّ، أو روائيّ، أو معماريّ، لذا يُنصح أصحاب هذا النوع من الاهتمام، بالاحتفاظ بورقة وقلم إلى جانب السرير، لتدوين ذلك الحلم في الحال، فربّات الشعر تقوم بزيارة منامات أصفيائها من الشعراء.
بعد أن مضيت في رحلة الكتابة أدركت أهميّة رفيقة سكني القديمة، لقد استعدت الكثير من أحلامها، ووظفتها مراراً. بحثت عنها لأتزوّد بالحكايات، لكنّها فاجأتني بفقدانها ميزة أحلامها القديمة، التي لم تعد مستمرّة أو حكائيّة.
أيّاً كان الحقل الدلاليّ لمفردات الأحلام، فهي أعطية تستوجب الشكر، فأنْ تحلم يعني أنّك تستطيع النوم، في حين لا يستطيعه بشر آخرون، ليس لأنّ جفونهم قصيرة، بل لأنّهم مرضى، وموجوعون، وخائفون، ولا يستطيعون الهرب أو النسيان…
فطوبى للحالمين، لأنّهم ينامون!
__________
*عن عمّان.نت

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *