سقطتْ زهرة، فتبعتها أختُها


*زكريا محمد


1
كنتُ في ما مضى دبّوراً يطير مثل جمرة ملتهبة. وكان طنين جناحي يهيمن على كروم التين. كل كروم التين كانت لي. كل ثمارها التي جرّحها الندى. العين التي تتلفت إلى تيني أثقبها بزباني. اليد التي تمتد أحقنها بسُمّي.
كنت مثل وباء الإيبولا، أرمي بضحاياي على أسيجة الكروم.
ضاع ذلك الزمن. لم يعد لي جناح مشتعل، يكسر قوانين الله كلها.
اليوم أصعد بعصاي إلى التلة. أصعد بالوهم الكبير الذي تبقى لي. كروم التين اختفت. وطنيني الذي أذعر البشر والحجر يعلق اليوم مثل أكياس بلاستيك فارغة على أواد الشوك وألواح الصبار.
آه، في يوم ما كنت شرارة تطير، وتحرق الحقول.
16-10-2014
2
لا تقل لي إن اليأس مسخك حجراً.
لدي خمس نخلات مثمرات في أريحا. أعطيك واحدة منها. خذ ظلها وثمرتها وجريدها. لكن لا تخبرني أنك صرت حجراً. لا أحتمل هذا. الإنسان لا يساوي رأس فجل في نهاية الأمر، لا يساوي بصلة. لكن هناك أشياء لا يمكن النكوص عنها. هل نكص المسيح عن كأسه المريرة مثلاً؟
الجداء تقفز مرحة على السياج القصير، والتيوس تربض هادئة في الظل. أعينُها الفاتنة تكاد تمحو الأمل واليأس معاً. أعينها عدسات محايدة تفتح على الحقيقة كلها. على الألم والفرح والخديعة.
لدي خمس شجرات دوم في العوجا. كل واحدة منها أعظم يأساً من أختها. لكنها تقعد معاً عند العصر، مثل أرامل بالسواد، وتدوّر ثماراً حلوة صفراء.
آه، لا تُخفِ عني أن اليأس مسخك حجراً.
فأنا أعرف صمت الحجارة، أعرف دموعها، وأعرف أغانيها الخرساء.
30-8-2015
3
الأشياء الكبيرة تسقط. تسقط مثل بيضة، وتنكسر: الحب، الصداقة، الإيمان.
الأفضل للإنسان أن يبتعد ما أمكنه، منذ البداية، عن الأشياء الكبيرة. أن يوطن نفسه على العيش من دونها. هذا ليس سهلاً بالطبع، لكنه ممكن في نهاية الأمر. التدخين يساعد على هذا. يجلس الواحد على كرسي أو حجر ما ويدخن، فتخرج الأشياء الكبيرة من رأسه وتصير دخاناً. الأشياء الكبيرة دخان أزرق.
في ما يخصني، فقد كانت لدي صخرة كبيرة أقعد عليها وأدخن. وطوال سنوات حوّلت كل الأشياء الكبيرة في رأسي، كل الأوهام، إلى دخان.
بقي وهم واحد كبير ما زلت أضنّ به: الشعر.
لست أدري إن كنت سأطرده يوماً ما من دماغي بنفسين من حشيش فوق الصخرة.
8-8-2015
4
لعلمكَ، أنا لست مالك الحزين، أنا مالك مرج بن عامر كله بما فيه من قمح وشعير ونحل ويعاسيب. متى أردت سيجتُه بالصبار، ومتى رغبت قطعتُ طرق القوافل فيه.
لا يوجد حجر لم يغف عليه رأسي، ولا وتر لم أخنق به صيدي. الشِعر صمّام أمانٍ عندي. لكنني أهجره أحياناً كما يهجر حرّاث يائس سكّته وسط الثلم ويمضي.
والشيء الوحيد الذي أثق فيه هو عصبة خضراء على جبيني. شدّي يا عصبة على دماغي، واطفحي يا حصبة على جسدي.
الحديد في النار، والعجين نهود، والنهر الكبير يتدفق بالطمي.
أنا أؤبر نخلي بيدي، وأعلف حصاني بكفي.
فقط لا تأخذني بمقصدي. فأنا أكتب أصلاً كي أعرف مقصدي. ولا تأخذني كذلك بقصيدتي. خذني بذيلها الذي يسحبني إلى حيث لا أدري.
الذي وضع الجمرة في فمي وحده من يُسأل عما تأتي به لثغتي.
15-5-2015
5
أعطاني الليل مشكوراً عود ثقاب وحيداً.
سأحفر حفرة، وأشعل ناراً، وأغني. أعطوني أسماءكم كي أتغنى بها. أنا من ولدتني أمهاتكم في العتمة. رأسي سوق عطّارين. رأسي قصر كبير بغرف لا عدّ لها. وأنا أعرف أغاني لا تعرفونها. أغني مثل بغل. آكل الأخضر واليابس. 
أنتم إخوتي. كلكم إخوتي. تعالوا واشربوا معي عند النار. النار هي الفتنة الوحيدة التي يحسن إشعالها.
مرة جعلت الحكمة تبكي مثل طفل. ومرة كسرت رمانة اليأس وأكلت أضراسها الحمراء. أنا أخوكم الذي سقط من دفتر العائلة.
أريد أن أشعل عجلة مطاطية وأدحرجها ملتهبة من هنا، من تحت قدميّ، حتى تصل الفجر.
10-3-2015
6
أعرف اسمي. وهو أصغر من حبة ترمس. لكنني لا أعرف من يناديني به. الأصوات غريبة عليّ. الصوت يضربني في جبهتي، فيطفر منها الدم. لكن لدي كُنى أفرّ بها من الصوت وما فوق الصوت. أكنّي نفسي (أبا فصادة)، وأطير. فيشقّ البرق قلبي، ويضرب البَرَد جناحي. ثم أكني نفسي (ابن آوى)، وأعوي. العتمة دار ابن آوى، والعواء الطويل لعبته.
أرتدي كنية، وأشلح أخرى.
يدي معتادة على طرق الأبواب. فهي مخلوعة من باب خشبي قديم. كانت حديدة يقرع بها الغرباء الباب. يا يدي القرّاعة، لا أحد يطل من عين الباب السرية للباب كي يستطلع وجه صاحبك.
ويحي أنا، ويحي. يدي من حديد، ويأسي من حديد أيضاً. لا أستطيع أن أنتصر، ولا أقدر أن أُهزم.
9-10-2014
7
على الحصير رسوم غزلان وعشب ونهر صغير. نمت على العشب عند الضفة، ورأسي بين أظلاف الغزلان. 
مقصدي أن أفصل نفسي عن الحقيقة. أن أبني عالماً من قصب السعد. لا تأخذوا جسدي على أنه كتلة واحدة. مثلاً: عيناي زهرتا نردٍ، وصدري خريف عظيم.
الغزلان محبوسة على الحصير، وهذا يؤلمها قليلاً. لكن العشب يكفيها، والماء يفيض عن حاجتها.
آه يا إخوتي. أنا حبيسٌ برضاي هنا في جزيرة صغيرة من عيدان القصب. من سبع سنوات لم أحلق شعري. صرت مخيفاً كالغيلان. من سبع سنوات لم أكتب حتى قصيدة واحدة.
الكلام ثقيل، والموت خفيف. شفتاي ظلفا غزال، ولساني زمّارة قصب.
فساد عظيم أن نولد. وفساد أعظم منه أن نبعث من جديد.
19-4-2015
8
الوجود جبل عظيم. لكن العدم جبل أعظم منه.
يرفّ طائر فوق رأسي فترتعد فرائصي. الفرائص كلمة لا معنى لها. وأنا أحب الكلمات التي لا تعني شيئاً.
فمي رخمة، وقلبي سنّور. النّور يأتي عن يميني، والمطر يهطل عن شمالي. ولا أدري كيف أفهم هذا.
الأمل تلة صغيرة. واليأس تلة أكبر منها. فرشت حصيري ونمت بينهما. فليس للمرء أحياناً وقت كاف كي يقلّب الأمور. ليس له وقت كي يقلّب الجمر. لذا يفرش حصيره على الحد. يكون شديداً وقت الجد.
اليأس حصالة كبيرة، وأنا أُسقط قرشي بداخلها.
31-7-2015
9
سقطت زهرة، فتبعتها أختها.
من عشرين يوماً وأنا أغني هذا المطلع، ولا أخرج منه. الأغاني أكاذيب. أما الحقيقة فكلبة ترضع في الظل جراءها.
خلّوني هنا يوماً آخر كي أعيد بناء حياتي. كي أعض أيديكم وأدميها.
سقطت زهرة، فارتجفت أختها.
الأسى يتتابع. وشغلتي أن أكسر الأغصان، وأن أضرم بها نار الأسى.
دعوني أقلع البقلة من جذورها كي لا يتجدد أساها.
سقطت زهرة، فسقطت الكلمات من عيني.
سوف أعض قرون البازلاء كلها، سوف أعض الجدي من أذنه، وأعض شعاع الشمس قبل أن تسقط الشمس في البحر تحت قدمي.
20-3-2015
10
لا أعرف اسم الطائر الذي أنشأ أغنيته فصحّاني قبل الفجر
رفعت رأسي عن الوسادة، واستمعت إليه.
أوه، لا أريد لأحد منكم أن يدلني على اسمه. الاسم والصوت يسكنان حيّين مختلفين، وأنا لا أريد جمعهما. ولا أريد حتى أن أعرف لونه. أستطيع بضربة واحدة من الفرشاة أن أمنحه اللون الذي يوائم صوته.
الطائر يغني أغنية لا شبيه لها. ليست أغنية عن الإلف والحبيب، ولا عن العش، ولا حتى عن الربيع والحياة. إنه يتسلى بصوته فقط. يرمي بهذا الصوت في العتمة كما لو أنه يلقي حجراً في بركة كي يصنع دوائر متتابعة لا معنى لها ولا هدف.
بعد ساعة سيأتي من سيقطف في برد الفجر ثمار الباذنجان السوداء ويضعها في السحّارة.
وأنا ضائع بين النوم واليقظة. أريد أن أنام وأن أصحو في اللحظة عينها.
نهضت، ووقفت على النافذة. عيناي محلج من فولاذ. أريد أن أجزّ صوف خروف الليل وخروف الفجر معاً. أريد أن أخلق دوائر لا عدّ لها، ولا معنى.
لا أعرف اسم الطائر الذي رمى حجراً في بركة الليل. لا أريد أن أعرف اسمه أبداً.
18-6-2015
11
أخفق بقدميّ مستعجلاً نحو حقل الخردل، والشمس لقلقٌ يصعد إلى وسط البركة الزرقاء فوقي.
سأشرب الحليب برغوته هناك. من شظف العيش جئت، وإلى النعيم أصل. من الغفلة جئت، وإلى الفطنة أمضي.
الحليب يتقطّر دافئاً في قلبي. الحليب يتقطّر على عيني وفمي ولحيتي.
ارسموا لي قوساً يظللني. احفروا لي نهراً يتدفق تحتي.
اللقلق يصعد متثاقلاً نحو السمت، والحجل ينحدر سريعاً نحو الوادي. وأنا هنا في الحقل الكبير أبيع المودة.
أمس بعت الملكة، وبايعت الملك. والملكة ممتنة رمت على كتفي بُردةً من زهور الخردل.
28-3-2015
12
تقلّبت طويلاً على جنبيّ. لكن الفجر لم يطلع كي يعضّ يدي التي أخرجتها عامداً متعمداً من تحت اللحاف.
أريد أن أعبر باكراً كي ألعق الندى عن أوراق البقل، وكي أملأ بالليمون السحاحير.
يدي سمراء قبيل الفجر، وعيني سمراء. والفجر حين يطل سيكون أسمر أيضاً.
على جبنيّ أتقلب. على وجوهي الكثيرة أتقلّب. يدي مفتوحة مثل ورقة تينٍ. والفجر لم ينبح بعد.
29-9-2014
13
الشوك ينمو في الحقل. اتركوه ينمو. لا تقلعوه. لا أريد كرمة ولا تيناً. شفاهنا أنا وقطيعي مخلوقة للشوكة.
النهار أطال مكوثه بيننا، وهذا لا يضيرنا. نحن في الحقيقة من أطلنا له الحبل ليرعى. النهار الأبيض فحل من إبل الجيران. والليل الأسود أيضاً فحل من فحول الجيران. وهو يتلكأ، لكنه سيأتي في النهاية. الليل والنهار جملان غريبان عندنا. لكن للقريب حصة، وللغريب حصة أيضاً. الشوك يكفي هنا. يهبط من التلة للسهل، ثم يصعد من السهل للتلة.
لا تزرعوا لي قثاء ولا قطاني. ازرعوا لي شوكة البلاّن وشوكة الشّبرق.
أقيلُ تحت العلّيقة، وقطيعي يستظل تحت الصخرة.
أنام تحت الشوكة، وقطيعي يجتر في الليل الأزرق.
11-8-2015
14
الطيور ملكيّة ابن المقفع. الحيوانات كلها ملكيته. عمل لها حديقة كبيرة- أكبر من سفينة نوح ذاتها- وسماها «كليلة ودمنة»، وحماها من الهلاك. عبرت الحديقة هذا الصباح، فطار من خطواتي مذعوراً سرب حمامات. لقد صرت ضبعاً مخيفاً.
وعند الظهيرة عبرت حقلاً مغناطيسياً. وكان سرب لقالق يحلق في السماء فوقي، فتحطمت وحدة السرب، وتشوشت رحلته.
لقد فسدت روحي. صارت قادرة على تخريب حقول مغناطيسية بأكملها.
قعدت تحت التينة، وجرحت ذراعي بالموسى. بكت التينة، بكت من جرحي.
التين بكّاء كالأمهات. وأسراب الطيور كلها لابن المقفع.
31-8-2015
15
زرعت شجرة جمّيز في أريحا. ولم تطلع ثمرتها بعد.
لكن الثمرة ليست مقصدي أصلاً. مقصدي أن أعثر على الخلود. وأسهل طريق للخلود أن أتحجر. غير أن عظم الإنسان طري، ولا يصمد أمام الزمن. يصير رميماً. لذلك فكرت بالجميز. الجميز يصلح للمهمة: جذع عظيم صلب، وخبرة طويلة في أعماق الجحيم.
وأنا الآن أغني كي تصمد عظامي. أكتب منتظراً أن يشتد جذع الجميزة. وحين يجيء الوقت سأحضن جذعها كي نصير معاً صخرة عظيمة واحدة.
زرعت شجرة جميز في الجحيم. زرعت فكرة ملتهبة في أريحا.
ستكون عظامي صخوراً، وكلماتي حجارة.
16-8-2015
*شاعر وكاتب فلسطيني
** النصوص من مجموعة قيد النشر بعنوان «حقل الخردل».
________
المصدر: كلمات/العدد ٢٦٩٦

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *