نون النسوة في انتظار الدكتاتور



*هالة صلاح الدين


“دائماً ما يهولني وقوف نسوة بجانب رجالهن الأقوياء. تساءلتُ عن مدى تعقيدهن ورفضهن الاعتراف بما يرتكبه الأزواج. والمرأة التي تخطر بقوة ببالي في هذه اللحظة هي أسماء الأسد. عندما أبصرُ صورتها، يدور بخلدي، ‘ما هو رد فعلكِ النفسي والعاطفي، بل والجسدي، على أحداث يتحمل زوجك مسؤوليتها’؟”.
إنها تأملات كاتبة المسرح الإنكليزية آبي مورجان كاتبة سيناريو فيلم “العار” من إخراج ستيف ماكوين وفيلم “المرأة الحديدية” عن رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، والذي قامت ببطولته الممثلة الأميركية ميريل ستريب. مورجان معنية بالحالة النسوية في الوسط الدرامي، وعلاقة السلطة بالمرأة، علاقة قد تنمو تفاعليةً تحكمها قوانين التكافل، أو ماشوسية يداخلها العنف والجبر.
وعلى مسرح دونمار ويرهاوس غير الهادف إلى الربح تقدِّم هذه الأيام مسرحيتها “فخامة” من إخراج البريطاني روبرت هاستي. وهو المخرج الذي أخرج هذا العام مسرحية بدون عنصر نسائي واحد على المسرح نفسه تحت عنوان “ليلتي مع ريج”.
تقول مورجان، المتشبثة بحقها في أن تكون نسوية حتى النخاع، إنها لم تتعمد في “فخامة” أن تسرد قصة أربع نساء بلا حول ولا قوة في انتظار رجل. فالفكرة نبعت من رصده النساء صلبات خضن زيجات عصيبة لا يعوزها التعقيد مثل إيميلدا ماركوس وهيلاري كلينتون، “لم يكن دورهن حيوياً في الحفاظ على تلك الزيجات متينة فحسب، وإنما أيضاً في تشكيل سياسات الزواج نفسها”. على سبيل المثال سوف نلفي أن الاتهام الموجَّه لميشيل وباراك أوباما باستغلال بريق زيجتهما في حملتهما الانتخابية الثانية في محله، وباعتراف السيدة الأولى نفسها.
ضباب الكتمان منقشعا
يستهل “فخامة” مشهدٌ دال على الوفرة والثراء المريب، كل شيء ينم عن فحش، بدءاً من الملابس الرائعة وكؤوس الخمر المتلألئة إلى نوافذ ذهبية تطل على لا شيء. تترقب صحافية في جناح للتصوير بقصر الرئاسة عودةَ الطاغية بلا طائل، والغرض هو التقاط صورة “جليلة” له.
الصحافية “غربية” تلعب دورها الأيرلندية جنيفيف أورايلي. تألَف فظائع “العالم الأدنى” كما تسميه بيد أننا لا ندري تحديدا أين تقع الأحداث. أغلب الظن أنها إحدى دول البلقان لشعرٍ أشقر يعتلي رأس السيدة الأولى.
معهما تنتظر مترجمة المصورة – الممثلة الإنكليزية زاوي أشتون – وما هي إلا لصة انتهازية لها أغراض سرية، تدس في حقيبتها تُحف القصر الثمينة لبيعها في السوق السوداء! تترامى المسرحية إلى آذاننا باللغة الإنكليزية، ومع ذلك حين تتحدث المترجمة إلى زوجة الرئيس، ينطبع في ذهننا الإيحاء بأن الغرض من بعض العبارات هو أن تبدو للآذان بلغة شرق أوروبية. وهكذا يختلط علينا الأمر أحيانا، فلا نقف على مَن يفهم مَن أو ماذا!
والرابعة صديقة زوجة الرئيس – الممثلة الأيرلندية ميشيل فيرلي، إحدى بطلات مسلسل “صراع العروش” – وربما درع الحماية لها في هذا البلد الفاشستي، من نوعية الطفيليات اللاتي يلازمن أصحاب السلطة طمعاً في مركز أو ربح شخصي. لا خامس لهن، وتلك البنية المسرحية تستدعي بالضرورة عدداً من المونولوجات المتقطعة التي تهرول إلى المستقبل ثم تتقهقر إلى الماضي. وقد أدَّت أجمل المونولوجات الأيرلندية سينيد كيوساك في دور السيدة الأولى التي هيمنت كالغول على الخشبة وهي تخاطب الجمهور.
ولا اجتماع نسائيا شِبْه صامت يغْلب عليه الضجر إلا وتطغى عليه الأسرار والظنون، وكذا الشكوك المحمَّلة بنفحات الخطر. لسن معرضات للتهديد، وإنما سيد البلاد بما ينتظره من مصير محتوم. ورويداً رويداً، ومع الوعد بانقشاع غُمَّة الحاكم، ينقشع عنهن ضباب الكتمان لتفضي كل منهما إلى الأخرى بما لم يحلمن به في عهد الكبت.
وفي تسعين دقيقة وهي مدة العرض، نسترق السمع إلى ما انغلقت عليه صدورهن من تواريخ شخصية ورؤى لبلد أفضل، أو أسوأ، لشعب يخط التاريخ ويترنّح على شفا، شفا ماذا؟ تفسُّخ عرقي فوضوي أم نهضة باعثة؟ النتيجة هي الأخرى خافية عنا. وإلى أن ينسدل الستار لا نلمح أثرا للرئيس. هل هرب الخزيان كزين العابدين بن علي أم اختبأ في جحر فأر كمعمر القذافي؟!
ثورة شعبية أم حرب أهلية؟
ما نعْلمه أن يوم الثورة الكبرى قد هلَّ في يوم شتاء قارس، يوم تنتفض الجماهير للثأر ورد الحقوق لأصحابها. “يسقط يسقط النظام”، يتردد هتاف الجماهير من النوافذ تردُد قذائف المدافع. وهن؟ هن نساء في الصفوف الأولى من حاضر يموج مضطرباً وإن لا تُشدد المؤلفة على دور الصحافة الحرة في خضم التحولات السياسية الكبرى، فنجد الصحافية مع تلهفها على مشاهدة العنف سطحية التفكير سلبية المسلك. والزوجة القاسية، رغم فطنتها أن الثوار يزحفون كالتتار نحو القصر، تصر كاذبةً بابتسامة مصطنعة على شرعية حكمها، مستحضرةً أسماء الأسد التي شكَّلت بالفعل “الإلهام” لمؤلفة المسرحية.
والنسوة كلهن على بعد دقائق من انقلاب سياسي كاسح، يَنزل بمجتمع اُتهم يوماً بالخنوع، ولكنه الآن ينفجر تلقائياً تحت أنين الجوع والقهر. ونحن؟ نحن نطَّلع على ما يعتمل في قلوبهم وعقولهم، رغم ما شاب النص من تكرار معيب حيناً واقتضاب مخل حيناً آخر. إن القلعة الحصينة تتداعى وتنقلب رأساً على عقب في هذه الأمسية المتمردة، فنجفل مما يحيق بالنسوة من طلقات رصاص وأدخنة غاز وشظايا من زجاج مهشَّم وضعها مصمم المسرح الإنكليزي بيتر ماكنتوش في الأركان.
الدكتاتورية والجندر
تتعالى أصوات المتظاهرين بكل عنفوانها لتَبلغ السيدات اللاتي يتحفننا بوجهات نظرهن عن دكتاتور لا اسم له. وحكايتهن لا إقحام أو افتعال فيها، تُهدى إلينا دليلا على أن السلطة وتقلباتها لم تكن قط بمبعد عن سياسات الجندر، ولطالما استغل الطغاة المرأة في دعم أنظمتهم، تتساوى في ذلك الإمبراطوريات الاستعمارية مع كوريا الجنوبية والدول العربية البوليسية قبل عام 2011 وبعده.
كانت المرأة في القرن العشرين – مثلها كمثل الرجل في الحقيقة – أداة وترساً في آلة التعبئة العسكرية والمشاريع “القومية” بالمصانع والأراضي والأسواق، حدَث ذلك في عهد النازية والستالينية والصين في عهد ماو على سبيل المثال لا الحصر. وبعض النساء سارعن باستغلال استغلالَ السلطة لهن لاقتناص شيء من التمكين الاجتماعي.أمَّا غيرهن الأشرف والأقل ذكاء، فقد خسرن أطفالهن لصالح الدولة لمجرد طرحهن سؤال، “ولم لا نصوِّت نحن أيضاً؟”.
وفي خضم أحداث “فخامة” يتساءل النساء عن طبيعة القيامة التي قامت، أهو تمرد موحَّد أم أن أهلاً يقاتلون الأهل؟ ومعهما نتساءل نحن العرب في جزع إن كان الربيعُ ثورةً شعبية أم تطاحناً أهلياً في جوهره. لا تجزم “فخامة” بشيء، فالإيحاءات تترامى هنا وهناك بأن الحركة البلقانية شرعيةٌ ماجت لتقوِّض قصر العاصمة، وإيحاءات أخرى بأنها مجرد حركة شعبوية طائفية في ولايات الشمال، أشعلتها قوى أجنبية دخيلة مدسوسة.
الثابت والمعلوم أن المرأة في غمار ثورات العالم الثالث مثَّلت دوماً الحلقة الأضعف والأشد هشاشة. فرأيناها متهمة ومنتهَكة جنسياً، أو مسحولة عارية على يد قوات الأمن، أو مستلَبة رهينة عند أمثال القائد البطريركي من جهة أو الدواعش من جهة أخرى. أو ربما يمزقها الفزع والخوف من المجهول في “فخامة”، مرغمةً على اتخاذ قرار مصيري، بناءً على تصرفات رجال آخرين، وكرد فعل على جرائمهم.
______
*العرب

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *