علي عبيدات*
خاص ( ثقافات )
عمار الشريعي (2012-1948) ابن أحد أعيان مدينة سمالوط أحد مراكز محافظة المنيا في صعيد مصر، وفي ذلك الريف كان الشريعي الطفل معنياً بالتأمل والإنصات في ملكوت تلك الطبيعة مستنجداً برفيف الفراشات وسقسقة العصافير وانحناءات أفانين الشجر ليرسم في مخيلته ملايين الصور التي عجز عن رؤيتها الطفل الكفيف، وقد ولد كفيفاً ببصيرة غنيَّة ورؤى ثرية.
قائمة طويلة بأسماء المبدعين الذين فقدوا نعمة البصر، أبرزهم الفرنسي لويس برايل مخترع برايل للمكفوفين، وأبو العلاء المعري الفيلسوف الوجودي الحكيم، وهيلين كيلر معجزة الإنسانية وطه حسين عميد الأدب العربي، والأقرب إلى عمار الشريعي الملحن والمطرب الكبير سيد مكاوي. كلهم كانوا على قدر من التحدي جعلهم يمتازون عن غيرهم ويمدون الإنسانية بروافد أدبية وفنية عظيمة أثرَت الإنسانية وخدمت كل متذوِّق.
للشريعي بصمات وآثار كبيرة في الموسيقى المصرية والعربية، بالإضافة إلى الموسيقى التصويرية للكثير من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية، وعلى صعيد الموسيقى التصويريَّة عُدَّ الشريعي أهم من يلحِّن المشهد في زمنه، رغم أنه لا يراه، لكنه يرسم المسموع والمُشاهَد معاً بجمل موسيقية عجز المبصرون عن حياكتها وقولبة النغم على مقاس مشاهده وحركته التي لم يرَها الشريعي قط، بل بلورها بحرفيَّته الموسيقية التي أجبرت عمالقة الموسيقى على الشهادة له، باعتباره دخل مجال الموسيقى في حضرة الكبار، بداية من عبد الوهاب والسنباطي كرواد للموسيقى العربية الحديثة وختاماً بالجيل الذي حمل راية الموسيقى العربية والتجديد الموسيقي أمثال بليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل وسيد مكاوي، وغيرهم من جيل ما بعد الريادة.
كان الشريعي صاحب طريقة مستقلة في الموسيقى وله نهجه في بلورة المشهد المحجوب بصورة نغم يمكن للمتلقي أن يستشعره بكل حواسه، ناهيكَ عن الأغاني التي لحنها الشريعي للعديد من الأصوات العربية، فكأن الشريعي عزف رؤيته ولحَّن هواجسه ليثبت للعالم كله أن هذا الكفيف يرى ما يريدون ويشير ببنانه إلى ما يعتريهم رغم أنه لا يراهم. ليبرع الشريعي بالعزف على البيانو والأكورديون والعود، ثم أخيراً الأورج.
ومن سمع روائع الشريعي من ألحانٍ وتقاسيمَ وأغانٍ غنى بعضها بصوته ومقطوعات أخرى لحنها للأعمال الدرامية كما في ملحمة المماليك “الزيني بركات” وجماليات الحارة المصرية في “أرابيسك” والمسلسل الذي تابعه الملايين “رأفت الهجان” لن يستثني القيمة الموسيقية التي رفدنا بها الشريعي من قوْلَةِ الإمام أبي حامد الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين” عن أهل الله ما فحواه “.. من لم يهزه الربيع وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فاسدُ المزاج وليس له علاج..”، ولا من رأي الشافعي الذي روى عنه “من لا يتمتع بجماليات الأنغام، معدوم الحسّ”، ومن هذا أيضاً قول شكسبير في إحدى مسرحياته على لسان أحد شخوصها “احذر فُلان.. إنهُ رجلٌ خطير..: فسأله شريك حواره عن السبب ليجيب: :إنه لا يتذوق الجمال..”. فكأن الشريعي فقيه نغم، عرف كيف يتسلل إلى قلب السامع دون بهرجة أو طباعة أو تكليف.
بدأ الشريعي حياته العملية عام 1970م بعد تخرجه في الجامعة مباشرةً كعازف على آلة الأكورديون في عدد من الفرق الموسيقية وواظب طريقه باتجاه احتراف النغم، لتزيد ألحانه عن 150 لحناً للعديد من مطربي ومطربات مصر والعالم العربى. وشكل الشريعي فرقة الأصدقاء الغنائية التي أراد من خلالها أن يمزج الأصالة بالمعاصرة، وأن يرفع من قيمة الغناء الجماعي وبث شكوى الناس وتبني المواهب الجديدة أيضاً من خلال هذه الفرقة، واهتمَّ اهتماماً كبيراً بأغاني الأطفال، وقد قال يوماً وهو يدرِّب الأطفال “هؤلاء الأطفال لن يكون بينهم متطرف”.
أما السينما فقد تجازوت أعمال الشريعي السينمائية 50 فيلماً، بالإضافة إلى ما يزيد على 20 عملاً إذاعياً، وكان الشريعي بشهادة أصدقائه (الممثل سمير صبري والشاعر سيد حجاب والملحن عمر خيرت والفنان علي الحجار، وغيرهم) صاحب طرفة ولا تفارقه الابتسامة، وله مواقف لا ينساها أصدقاؤه بينما كان يعمل معهم، وتجلى هذا في برنامجه الذي لقي رواجاً عربياً واسعاً “غواص في بحر النغم” الذي استقبل فيه الشريعي عمالقة الفن ورواده وبيَّن فيه فلسفته الخاصة في الموسيقى وخلاصة تجاربه ومشواره الطويل في عالم النغم.
اقترح أصدقاء الشريعي عليه أن يسافر إلى أكاديمية مشهورة في إسبانيا بعد أن ذاع صيتها في مجال طب العيون، أملاً منهم بأن يشفى ويعود له بصره، لكنه رد على هذه الاقتراحات “أنا شايفك في خيالي حاجة حلوة أوي مش جايز لو فتحت ألاقيك حاجة تانية تصدمني فيك، خليني كده أحسن..”، وكان لزوجته ميرفت القصاص تأثير كبير في حياته ونجاحه بما قدمته له من دعم في مشواره الطويل. ومن القصص التي يتداولها أصحاب الشريعي، أنه أصيب بآلام في أذنه من فرط ما كان يسمع الموسيقى، وذهب إلى الطبيب ليتعالج، فطلب منه الطبيب أن يغلق أذنيه أسبوعاً كاملاً، فتألم وقال للطبيب: “أنا دلوقتي اتعميت”.
كان الشريعي يقظاً جداً وتجاوز الحالة وعاش كغيره. كان مولعاً بالتقنية والآلات الموسيقية المتطورة، وساهم هذا بأن يكون رائداً في موسيقاه وأن يبتكر كل جديد، وباعتبار دراسته كانت في الأدب الإنجليزي فقد كان يمزج حسه الأدبي بحرفته الموسيقية، مما مكَّنه من عيش الحالة الدرامية والسينمائية موسيقياً ومشهدياً، ليكون صاحب مدرسة مستقلة في الموسيقى التصويرية، وأتقن الشريعي العديد من اللغات، باعتباره ابن باشا، ولم يكن برجوزاياً في علاقاته مع الآخرين (ابن بلد)، ومات عاشقاً لأمه ومتأثراً بها، فهي من علمته البساطة، وكانت أمه سيدة خفيفة الظل من منطقة “المطرية” المعروفة بأصالة أهلها.
وآخر ما فعله الشريعي في عامه الأخير بيننا، تأييده للاحتجاجات التي طالبت برحيل الرئيس المصري السابق حسني مبارك ضمن الثورة المصرية التي حرص على أن يشارك فيها رغم تراجع صحته، وأصيب بأزمة قلبية نتيجة الإرهاق ليُعلن ظهر يوم الجمعة السابع من ديسمبر 2012 عن وفاة الموسيقار الكبير عمار الشريعي داخل أحد مستشفيات القاهرة عن عمر جاوز 64 عاماً بعد معاناة مع مشاكل في القلب والرئة.
رحل الشريعي، جسداً وبقي النغم خالداً، فلو اعتمدنا على الصورة والحضور والمشهد لما عرفنا فقه النغم الشريعي لأن الكفيف لا ينقل بداعي العجز، بل يثري ويأخذ وفق حواسه الباقية مخاطباً كل حواسنا.
*شاعر ومترجم من الأردن.