لن يموت الفنان بداخلك أبدًا


*إيما أوكون/ ترجمة: محمد الضبع


لن يموت الفنان بداخلك أبدًا، حتى وإن حبسته بعيدًا في زنزانة وقذفت بمفتاحها. حتى وإن قمت بتقييده وإغلاق فمه. بإمكانك التظاهر بأنه ليس إلا شبحًا سخيفًا، يرسمك على الورق وحولك دوامة من الأشخاص، ولكن حين تتخلص من كل ما يشتت انتباهك، ستذهب إلى ذلك الفضاء الخالي عند الثالثة صباحًا، وسيصبح بإمكانك سماع الصوت في عقلك، لأن الفنان سيعود لملاحقتك.


لن يقوم هذا الفنان بركل الباب بعنف ليهدد حياتك، ولكنه سيغني من أعماق الأرض. سيغني أغنية آسرة تذكرك بشعلة النار أمام ضوء القمر، بدفقة يدك الطفلة في سطل من الحبر الأزرق، بمجرى الدم الأحمر وإيقاعه المتجه نحو مكانه المنشود. وسيبدو الأمر أشبه بالحنين، وكأنه مستحيل وبعيد جدًا. ستشعر بوخز مؤلم. وستحاول نسيانه، لأنه ليس ألما صاعقًا، لن يكلفك عظامك أو أحشاءك، بل إنه ألم ناعم، يتسرب بهدوء إلى أكثر لحظاتك ابتعادًا عن المنطق. 
بينما تنتظر في صف بالسوبر ماركت، ترى طفلًا يركض باتجاه جده المسن، ويجذب يده بقوة. ينظر إليه الجد، ثم يبتسم. يتجعّد وجهه كأنه ورقة؛ وها هي أمامك قصيدة بدأت بالنمو في مخيلتك، يتحدث إليك فنانك بالسر. 


تشيح بنظرك بعيدًا، لأنك إن استمعت له لثانية إضافية، سيملي عليك الفنان داخلك بالسطر الأول من القصيدة، وأنت لا تملك الوقت لمثل هذه الترهات.


لن يموت فنانك أبدًا، ولكنك ستموت. ببطء.
سيمر الوقت، لتدرك بعدها أنك لم تتبع شغفك منذ مدة طويلة. أقسمت في السابق أنك ستعود لفنانك في المستقبل، عندما تكون متفرغًا، عندما تكون الظروف آمنة. ولكنها لا تصبح آمنة أبدًا. وهكذا بإحساسك بالذنب، والفشل، ستحاول استدعاء فنانك مجددًا من سجنه.
ورغم كل هذا، سيكون فنانك حيًا بالتأكيد، وقادرًا على الخلق، ولكنه أصبح هزيلًا بعد كل هذه السنوات، وعليك الآن بذل الجهد الكامل وتكريس حياتك لإعادته بصورته الأولى. ولست متأكدًا حتى إن كانت حياتك ستكفي لهذه المهمة.


لذلك لا تتجرأ على دفعه بعيدًا كما فعلت في السابق. وعندما يتحدث، عليك الإنصات، أو على الأقل عليك أن تحجز له موعدًا إن كنت مشغولًا وقتها. الفن صورة من الروح، والروح بالغة التعقيد وتمر بالعديد من التغييرات بسبب أقل لمسة ممكنة، ولا تستطيع البقاء على صورة واحدة.
والفن الذي تبتكره غدًا، لن يتمكن إطلاقًا من القبض على الفن الذي كان يمكنك أن تخلقه بالأمس. 
كل تجاهل هو خسارة أبدية: كل عمل فني لديه فرصة واحدة للوجود، وحين تضيع هذه الفرصة، يتجه مباشرة للعدم ولا يعود. 
الفنان بداخلك لا يطالب بالكثير. يعرف ويفهم أنك تعمل بالنهار، وأن أطفالك بحاجة إليك، وكل ما يطلبه هو نافذة صغيرة من وقتك يوميًا، دقيقة زائدة عن حاجتك، تلك الساعة التي طالما أضعتها باستلقائك على الأريكة لتقلّب القنوات.
قطعة الحجر التي كان من المفترض عليك أن تحولها إلى شيء جميل، دفتر الموسيقى البارد والفارغ، جميعها بانتظارك أيها الفنان. من الأسهل عليك أن تهرب، ولكن تذكر شعورك بالذنب، تذكر قيمة هذه اللحظة، وهذه الأغنية.


تذكر أن فنانك لا يطالبك بالجمال دائمًا، عليك أن تبدأ فقط، وسيقوم هو بإتمام المهمة.
لا يهتم فنانك بالتصفيق أو بالجوائز، بالرفض أو بالقبول. بل بك أنت. يرقص ويدعوك للرقص معه. لا يهتم للتعليمات أو للقواعد، لأنه روح حرّة تركض حافية دون أحذية.


ومهما كانت حقيقة ذاتك فإن هذا لا يهم، لأن الفن عبارة عن رحلة الرجوع إلى الوطن. كلما كنت على وعدك مع الفن، ستحصل على نصيبك من المكافأة. هذه المكافأة هي محبتك لذاتك ولروحك.
_______
*المصدر: مدونة “معطف فوق سرير العالم” للشاعر محمد الضبع.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *