الروتين اليومي الذي مكنني من الكتابة لثمانين عامًا


*وارين أدلر/ترجمة: محمد الضبع


بصفتي مستمرا في كتابة الرواية حتى السنوات الأخيرة من عقدي الثامن، تعرضت كثيرًا لسؤال متكرر عن كيفية تغلبي على فقدان الذاكرة الذي يصيب الكتّاب الأكبر سنًا ويعيقهم من تذكر تفاصيل الماضي. الذاكرة هي مفتاح الكتابة الروائية، ووصولك لسن الثمانين وأنت تكتب يتطلب منك امتلاك ذاكرة مليئة بالتفاصيل والحكايا، على المدى الطويل والقصير.
تمرين الصباح:
التفاتي للماضي عند اسيقاظي كل يوم هو روتيني الذي لا أتخلى عنه، هكذا أبدأ بالوضوء، ولقد تعلمت حب هذه العملية مع مرور السنوات. عندما أفتح عيني لا أنهض من السرير حتى أعصر كل ما أستطيع من إسفنجة ذاكرتي. أؤمن أن كل ما حدث للإنسان مخزن في مكان ما من الدماغ، محفوظ غير مصاب بأذى، وقابل للعودة للحياة كما حدث في أول مرة. أحاول في هذا التمرين أن أتذكر أقصى ذكريات الطفولة، أتذكر المشاهد وأشتم الروائح التي عادت إلي، لمسة يد أمي، صوتها، وجه أبي، صوته، يده، شكلها وإحساسي بها. وحتى الآن عند سن السابعة والثمانين مازلت أملك ذكريات مشوشة من عيد ميلادي الثالث وأسماء ووجوه الحاضرين من أقاربي يومها.
أرغم نفسي على تذكر أجدادي من الجانبين، أتذكر هيئاتهم، الطريقة التي عاشوا بها، أنواع الطعام الذي كانوا يتناولونه، واللغات التي تحدثوا بها. بإمكاني تذكر عناوين منازلهم، الطريقة التي كانوا يمشون بها، والتي كانوا يتحدثون بها، وإحساسي بكل هذا. وأتذكر أحجام أيديهم، ومازالت هذه الذاكرة تعود لي من وقت لآخر.
أشعر أن هذا الأمر معجز. يد جدتي كانت تشبه يد البجع في رحمتها وعطفها. كانت يدها قوية وأظنها تشير إلى عملها المبكر منذ الطفولة. أحاول أن أتذكر جنازة والدتي وجدي وجدتي والطريقة التي بدا كل منهم في نعشه المفتوح. أول شخص ميت رأيته في نعش مفتوح كان جدتي التي ماتت عند سن السادسة والخمسين. كانت تبدو جميلة في النعش.
أجبر نفسي على تذكر جميع من علّمني منذ الروضة حتى الثانوية والجامعة. بإمكاني تذكر العديد من زملائي القدامى. ويستمر هذا الحشر بالازدياد كلما تقدمت في العملية. أتذكر كل حبيباتي، قصص حبي الأولى وتجاربي الجنسية، عواطفي، وأكثر من هذا. بإمكاني أيضًا تذكر كل الممثلين والممثلات ممن ظهروا في الشاشة الفضية في ذلك الوقت.
الاستمرار بعصر الإسفنجة:
أصنف كتبي المفضلة من الطفولة وحتى الآن، كتّابي المفضلين، محطات الراديو المفضلة، وكل برامج التلفزيون القديمة. بإمكاني تذكر كثير من إعلانات محطات الراديو القديمة. وكلما أجبرت نفسي على التذكر، كلما اتسع هذا الكتالوج الموسيقي المليء بالكلمات والصور.
أنا متأكد أنكم فهمتم الفكرة. إنني أعمل على عصر إسفنجة الذاكرة يوميًا بأقصى قوة ممكنة، مرة بعد مرة. أحاول أن أعيش في لحظة الذاكرة. أنا مقتنع تمامًا أن كل هذه الذكريات مخبأة في مكان ما من الدماغ تنتظر أن توقظها قوة ورغبة سرية. الأشخاص، البيئة، الأصوات، الروائح، كل ما حدث أو تم الإحساس به في حياة شخص ما، ينتظر أن يوقظه أحد. وهو في نظري حي حتى في الحاضر.
ومازلت أنبهر حتى الآن حين يطفو تفصيل صغير من الذاكرة إلى سطح إحدى رواياتي بكل إشراق وواقعية وكأنه يحدث الآن ولا يأتي من الذاكرة. هذا البحث في الذاكرة عبارة عن شوق يومي مستمر، تصقله تمارين التذكر الصباحية. لا أملك معرفة دقيقة للميكانيزم الذي يفسره ولكني أعلم أنه حقيقي ويؤدي إلى نتائج مبهرة.
_______
*المصدر: مدونة “معطف فوق سرير العالم” للشاعر محمد الضبع.

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *