أيتها الحياة أريد أن أعيشك..!


أماني لازار




ممزقة بين قلقي ومخاوفي، بؤسي وعجزي، بين خبر في الصباح عن انفجار شاحنة، وخبر بعد الظهيرة عن انفجار عبوة ناسفة في حافلة عامة، بين حياتي الطويلة هنا التي لم تعد جديرة باسمها، حبيسةً انتقل من سجن البيت إلى سجن العمل، وأقطع بضع مئات من الأمتار لأصل إلى حافلة تقلني وأخرى تعيدني. وبين رغبتي بالسفر، العصية على التحقق لأني لم أستطع اتخاذ القرار الصعب بترك كل شيء ورائي، كل شيء لا أزال أعتقد بوجوده واهمة، ولأن السفر هرباً أو غرقاً يكلف مالاً لا أملكه، ازداد تمزقاً.. أجلس ساهمة أنتزع ذلك الجلد المحيط بأظفاري واحداً واحداً حتى يسيل دمي لأتألم عبثاً وينزاح بعض الخدر، ألم ليس في وسعه أن يكون دليلاً على وجود ينبض بالحياة…
لم تكن مأساتي يوماً نابعة من ظروف الحرب، ربما هي حجة أتذرع بها كي لا ألقي اللوم على نفسي، أو هذا ما يظنه الناس فأسايرهم، لكن ظنهم هذا يجعلني أرى في كلماتهم شفقة أكرهها فتزيد كراهيتي لنفسي. لأني أعرف تمام المعرفة أن مأساتي سابقة على الحرب ولن تنتهي بانتهائها، إنه جبني وترددي، خوفي وقلقي، وتعلقي وارتباطي بأشياء وأناس تعلقاً زائفاً، بخيوط لا وجود لها إلا في خيالي، بل ربما أكثر من ذلك، خيوط أدّعي وجودها لأكذب على نفسي بوعي تام مني.. أنا جبانة ولم أدافع يوماً عن أحلامي، ربما لأنه لم يكن لديّ أحلام لأدافع عنها بكل ما عندي من قوة، ولم أرغب يوماً في شيء إلى درجة تجعلني أسعى إلى نيله. يقولون سافري، نعم أريد أن أسافر، هل حقاً أريد أن أسافر؟ لا أعرف، ربما لا أريد شيئاً، قد أفعل إذا ما جاء شخص من اللا مكان وقال لي هيا احزمي أمتعتك لأننا سنسافر.. لكن هذا الشخص لن يأتي لأنه غير موجود أصلاً ولن ينوجد يوماً. كل ما أعرفه أنني أكرهني وأن هذا الإحساس سيرافقني طويلاً جداً…
أعرف أني نموذج شخص لا تقدم على الانتحار، تفكر فيه، نعم، لكن لا تقدم عليه. لماذا؟ الجواب ببساطة: لأني أخاف. ربما أخاف من الفكرة مجردة من مرأى الدم؛ ففكرة الانتحار ترتبط عندي بسكين ورسغ مقطوع وبركة من الدماء، أعلم أن هناك طرقاً أخرى… أغمي عليَّ مرات عدة في حياتي لأسباب غريبة، مرة في المرحلة الإعدادية في درس العلوم عندما جاءت المدرّسة بعين حيوان ما لتشرح لنا عن العين، مرة أخرى أغمي عليَ عندما كنا نقف في الباحة مع زميلة لنا كانت تشرح كيف وقعت عن الدرج وأصيبت عينها، أذكر المرة الأخيرة حدث هذا بعد مشاهدتي فيلم 127 ساعة، كان وقع الإغماءة شديداً على أمي لظنها أني متّ وظلت أسبوعاً كاملاً تقبلني وتضمني وتسألني عن السبب، مع أنها لم تكن معتادة على ذلك سابقاً! قسا قلبي مع مرور السنوات ولا سيما الأخيرة منها، رأيتُ جثثاً على الطريق وسمعتُ وشاهدتُ أخباراً كثيرة عن القتل والإصابات أتحاشاها قدر المستطاع لأني وإن لم أفقد الوعي فالكوابيس لن تفارقني أياماً طويلة. هكذا ولأسباب كثيرة، منها ما أجهله، لست شخصاً ينتحر ولكني أجنّ، أشعر بأني أقرب ما يمكن إلى الجنون، وبأن الصرخة تقف في حلقي ولا يزال في وسعي أن أمنعها من الإفلات، لكنها بالتأكيد ستغدر بي يوماً وتتمكن من الخروج، حادة، مدوية، ونقية. سأجنّ وأصرخ قائلة: “أيتها الحياة أريد أن أعيشك!” حينها ربما ستصلها صرختي ولكن بعد فوات الأوان.


* كاتبة سورية
(النهار )

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *