حيث اختفى الطائر



*غسان زقطان


1
أنت أفضل مني يا زكريا
رغبة جامحة هي التي كانت تستولي على “يحيى” وتقوده إلى خرائب البلد وكهوفها والمقابر القديمة المدفونة في السفوح والوديان والأحراش وشعاب التل الكبير.
رغبة بقي يجهل مصدرها كانت توقظه من النوم وتأخذه بعيداً عن بيوت القرية ومقاماتها الأربعة مسرنماً مثل شجرة تسعى.
لم يجد والده عطا أمام ذلك – وبعد محاولات كثيرة واستشارات وأدعية وأحجبة – إلا الاستسلام لتفسير أنها مسّ من الجن، وهو ما اتفق عليه الجميع وقبلوه بالبساطة نفسها التي قبلوا فيها ظهور «شجرة يوسف» وتنقلها بين وادي بولس والمدخل الشرقي للقرية، وأعراس الجن التي تجري في مقام النبي زكريا، أو تجول الجنود الفرس حول مغارة «ستنا السايحة» لحمايتها من مواكب الدراويش الصاعدة نحو القدس؛ ما منح الفتى الطويل ومشيته المائلة – بسبب عرج خفيف ولد معه – لمسةً من القداسة، وجعل مصادفته نائماً في الحرش مبللاً بالندى ومغطى بالشوك قبل أذان الفجر، أو عائداً من التل في الليالي الباردة وهو يلف على ذراعه أفعى سوداء أو يضع على كتفه حرذونا قلقا أو طيرا غريبا ينقر الشوك الذي علق بكتفه، جزءاً من حياة القرية تماماً كالضوء الذي يظهر في «ليلة القدر» في مغارة «ستنا السايحة»، أو البكاء الذي يصل من خرابات الدير في ليالي الشتاء، أو الأذان الذي يسمع في صباحات العيدين ومولد النبي من جهة «مقام الصالحي».
اعترف له مرة:
– عندما يبدأ الأمر لا أستطيع أن أتوقف يا «زكريا»، كأن شخصاً يناديني ويدلني على الدروب ويرشد الكائنات اليّ وهو يتقدمني ويشير نحوي، شخص يشبهك يا زكريا، أكاد ألمسه وأراه وأتذكر صوته.
لا أستطيع أن أتوقف يا زكريا، ولا أحد يصدقني.
– أنا أصدقك يا «يحيى».
دون خطة أو هدف واضح وزع مطارحه ولقاه في كل الاتجاهات، وأطلعه – دون غيره – على معظمها، ولكن «مخبأ الصبار» بقي سرهما، وتعزز بعد أن تسللت «سارة» في أول موعد لها مع «يحيى».
يفكر الآن فيها، في «سارة»، في إصرارها عليه ليلة تسللها إلى «مخبأ الصبار « أن يحلف على المصحف والأنبياء محمد وعيسى وموسى وموتاه جميعاً، ألا يخبر أحداً، يفكر في حدادها الطويل وحياتها التي تحولت ثلماً عميقاً من سوء الحظ.
كان الممر ضيقاً وبصعوبة سيتسع له ولها معاً، التصق جسداهما تماماً، حتى أنه شعر بنهديها الصغيرين المرنين وهما يضغطان على طول جسده، كان يحاول الخروج من المخبأ ليترك المكان لهما، وكانت قد تمددت في الممر وبدأت تزحف إلى الداخل، التقت عيونهما لحظة ونما بينهما فجأة ثلم طويل وعميق من الندم، الثلم الذي يزداد عمقاً وغموضاً كلما شعر برجة نهديها على شعره وعينيه وأنفه وشفتيه، حين توقفت وهي تلهث كانت رائحة صدرها تغطيه وتتخلل جسده، قبل أن يواصلا هبوطهما، نهداها، على صدره وبطنه وفخذيه. 
ثم أهداه «يحيى» في نوبة كرم «مخبأ الدير» في الخرابات الشرقية للقرية، أخذه من يده بعد المدرسة حتى آخر البيوت ثم انطلق يركض ويصرخ ويلوح بيديه للأقواس المتآكلة والأنفاق والأرضيات التي غطى بلاطها التراب ونبتت الأعشاب في شقوقها، كان ينادي كمن أصابه مس، كما لو أنه أصبح سواه.
تبعه حتى توغلا داخل الخرابات، سار «يحيى» على حواف الجدران المهدمة وهو يتوازن بيديه مثل طائر قبل أن يهبط على الأرض وينحني تحت ألواح صبارة معمرة، هناك كشف بعصاً ثقيلة فتحة تؤدي إلى درج حجري انهارت بعض أطرافه، أشار إليه أن يتبعه ولكن خوفه من الأفاعي المعمرة ذات القرون والمغطاة بالريش، التي تعيش في الخرابات قيد قدميه، كان صوت «يحيى» يأتي من العتمة يحثه على النزول، ثم لمح بصيص ضوء؛ فنزل الدرج الذي بدا طويلاً يدله الضوء، في نهاية الدرجات كان «يحيى» يقف وسط ساحة دائرية مبلطة وبيديه السراج الذي حول الجدران إلى ظلال راقصة.
كان المكان سليماً قياساً بسطح الخرابة ومظهرها الخارجي، ونظيفاً ورطباً، استطاع أن يتبين هيكل المذبح وظلالاً متداخلةً لرسوم كثيرة على الجدران، وفي السقف كانت مريم تطل عليهما وهي تحتضن ابنها، واصل مشدوهاً تتبع الضوء في يد «يحيى» الذي بدا فخوراً، ثم سمع صوته الذي يحبه:
– أرأيت، لا توجد أفاع؟ 
أين هي الأفاعي؟ 
هل قابلتك أفعى على الدرج؟
الأفاعي خجولة وتخاف من البشر.
كان يقف الآن وخلفه تمثال متآكل لسيدنا الخضر وهو يطعن التنين، حصان الخضر، أو «مار جرجس» – كما يسميه المسيحيون- كان سليماً باستثناء الجزء المنحني من قائمته الأمامية، ولكن اندفاعته بقيت كاملة، التنين كان سليماً ومطعوناً وفي طريقه للموت. 
واصل « يحيى « حمل السراج في أرجاء الساحة وعندما تأكد تماما من أثره على صديقه المذهول، سأله: 
– هل أعجبك المخبأ؟
أومأ برأسه وهو ينظر نحو ما يشبه خارطة تحتل مساحة واسعة من الأرضية.
– سأعطيك إياه إذا أحببت، قال «يحيى» فيما صدى رطب وقديم يرجع صوته، 
سأعطيك المخبأ وسيكون لك وحدك.
صمتا طويلاً قبل أن يسمع صوت «يحيى»:
– أنت أفضل مني يا «زكريا».
ثم سمع صدى صوته وهو يعود من رحلة قديمة وبعيدة:
– بل أنت أفضل مني يا «يحيى».
في ما بعد ستتحول تلك الساحة إلى ملاذه الخاص ولقيته في البحث عن عزلته، وسينقل إليها الجرائد والمجلات العتيقة التي كان يحضرها خاله بين وقت وآخر من يافا والقدس إضافة إلى كتب مطبوعة في مصر ونسخ من السيرة الهلالية، والأميرة ذات الهمة، والزير سالم، وسيف بن ذي يزن، أو تلك التي وجدها «ياسين» في صندوق شقيقه الذي غادر للعمل في ميناء يافا، كانت تلك مكتبته الأولى.
كانت لوحة مريم المرسومة على السقف بقطع صغيرة من الفسيفاء الملونة تمنحه إحساساً بغياب الزمن، وكان ذلك يستدعي سورة مريم في القرآن، السورة التي تشبه القرية وتجمعها في سلسلة من الحكايات والأسماء، الأسماء التي ما زال الناس يحملونها ويتجولون بها مثل عطايا منحها لهم المكان.
كلما شرع بتلاوتها تصله قوية طاقة الحب الغريب التي تحملها تلك الآيات وإيقاع الياء المذهل الممتد بلا نهاية أو وقوف، وسيشعر بتلك الياءات المشددة وهي ترتفع من أوراق المصحف إلى السقف حيث تتلقاها العذراء هناك بحجابها الخفيف، وعند الآية الثالثة والثلاثين سينطق الطفل في اللوحة على السقف:
« والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّا».
كانت السورة تشبه «مخبأ الدير» وتترجع فيها وتمنحه تلك الطمأنينة الخاصة التي يقتسمها برضا عميق مع مريم.
البداية كانت تذهله تلك الحروف الغامضة «كهعيص…» التي تمهد للصعود نحو المعجزة، حينها يدرك أن درجاً حجرياً بدأ بالظهور تحت قدميه كلما انتقل الى آية جديدة، ثم السرد المتنامي بما يشبه لقية وليس مجازاً، النداء المجرد للإسم البسيط الذي علق بالمكان مثل وشم عميق، المرأة باسمها المجرد البسيط كعنوان لكل شيء، امرأة مقدسة حملت عبء المعجزة وحدها ومنحت الطريق بين الناصرة وبيت لحم تلك القداسة.
كان يحب أن يرسم طريقهما على التراب بغصن جاف، يكتب الناصرة ثم زكريا ثم بيت لحم بعد المرور على كروم بيت جالا ويربط بين النقاط الثلاث متجاهلا القدس، وعندما يغمض عينيه ويضع يده على الخطوط كان يلمحهما وهما يعبران أقواس التلال، مريم ويوسف، ويسمع حديثهما المتكتم في طريقهما إلى بيت لحم. 
يفكر دائما أن هذه السورة تحديداً هي سيرة القرية واسمها الممتد، النداء السماوي الذي يغمر «زكريا».

السلسلة التي تتبع زكريا ويحيى ومريم، عيسى إدريس وموسى وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ونوح جميعهم مثل درب طويل يصعد في الهواء بلا ضفاف، حيث وصلوا هنا إلى السورة بمعجزاتهم ومصائرهم الموصوفة بعدل سماوي، وفي مكان ما من السورة سيردد الآية الخامسة عشرة بعد النداء وبعد «يا يحيى خذ الكتاب بقوة»:
« سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّا»، وسيسمع صوته:
– بل أنت أفضل مني يا يحيى.
وكان كلما غادر البهو وصعد الدرجات نحو سطح الأرض، يغمره إحساس بالخسارة وأنه خرج لتوه من حلم مبلل ومعشب، وينبع من داخله شعور بأن الأمر برمته ليس حقيقياً.

كان يقف، كما لو أن نداء خفياً ينبع من جسد شجرة البلوط في مدخل القرية من جهة «وادي بولس»، «شجرة يوسف»، لا أحد يتذكر بالضبط كيف حملت ذلك الاسم.
ثمة أكثر من رواية تحيط بالشجرة، رواية ياسين، ورواية يونس، ولكنه كان يشعر على نحو ما أن رواية ياسين تناسبه، حكاية بسيطة وحاسمة دون ثغرات، تحمل تلك النكهة التي تميز طريقة ياسين المبنية على التقشف، والتي تصل سامعيها بقوة شهادة محايدة وغير معنية.
تلك هي قوة القص التي يتمتع بها ياسين، لا مبالاته القاسية بثقة المستمع، يلقي حكايته دون أن يلتفت أو يتوقف، التي تقول:
إنه في اليوم الثاني لاختفاء «يوسف» ظهرت الشجرة من العدم، كانت إشارة للطريق الذي سلكه الطفل ابن السابعة صبيحة يوم إثنين في اليوم الثاني لعيد الفطر بعد شهر رمضان.
فيما يروي يونس أنها، الشجرة:
كانت في الأصل نبتة ضعيفة تعيش بين الصخور على سفح الوادي الشرقي، وأنها نمت وصعدت ليلة اختفاء «يوسف»، وواصلت سيرها ونموها من صلاة العشاء حتى صلاة الفجر، حيث وصلت إلى مكانها الحالي.
ولكن ذلك لم يمنع أم يوسف أن تحمل الماء كل صباح، وقبل أن تبدأ بإشعال «الطابون»، إلى الشجرة، كما لو أنها تسقي ابنها، أو، وهذا تفسير ياسين، لتظل، الشجرة، خضراء وقادرة على إرشاد يوسف لطريق العودة.
فيما يكرر يونس، بلا ملل، أن لا معنى من سقاية البلوط، فهو شجر إلهي مثل الزيتون تكفل الله برعايته.
___________
* فصل من رواية حيث اختفى الطائر، قيد النشر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع بعمّان.
المصدر: عن الأيام الفلسطينية. 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *