عين الفوارة


*بسباس عبدالرزاق



خاص ( ثقافات )


تزحف السيارة ببطء على الإسفلت الساخن؛ مثلما تحبو أحلامه في حقل جمر ملتهب، الأضواء مثل خيوط تائهة، و هو غريب يبحث عن أرض تتحمله، في غياب المكيف تلتصق الثياب بالأجساد، و العرق يغدو لزجا مثل مخاط مقزز. يخرج يديه من النافذة؛ ليستعير بعض النسيم البارد إن أمكنه ذلك، يتسلل نحوه الهواء ساخنا، فيسحبهما نحو الداخل و كأنه يعيدهما بعد صفعة تلقاها من الزمن، أحيانا يتداول الحديث مع صديقه الذي يكاد يستسلم للنوم؛ جراء القيادة ليلا.
يعدل بين لحظة و أخرى من جلسته، ليعيد لمؤخرته سيرتها الأولى؛ بعد أن انبسطت من الجلوس مطولا. يخرج سيجارة ليسافر أسرع من السيارة، يسحب الأمل نحو رئتيه، ثم ينفثه دخان حلم أحرق داخله، و ربما هو حلم مشتعل في صدره، بحضور القهوة يصبح الجنون رياضته المفضلة، يضيف للجنون جرعة من سيجارة مخبأة في درج الأوراق، سيجارة مصممة من الحشائش، يسميها حشيش الروح.
يستسلم تماما لرغبة الشرود، ينقب في جمجمته عن ذاكرة ما، عن تاريخ يشبع شغفه للجنون، نعم إنه الحب، و من غيرها المرأة؛ تستطيع أن تخدر أطرافنا؟، هي الجنون بحد ذاته، يراجع الماضي و اللحظات التي استطاعت فيها امرأة واحدة؛ أن تجعله يشتهيها و تربكه، امرأة واحدة تكفي، أعجبته تلك التي رآها يوما و هي تنزل من فوق آثار رومانية، عارية بدون ملابس، خطوة واحدة منها توقفت على يد النحات، في وسط المدينة وحدها من بين كل النساء من اشتهاها، ربما لأنها غريبة عن مدينته، لأن الغريب فيه من اللذة الكثير، يشبع الفضول و يثير شهوة الأسئلة، نحسه طريقا من النقاط، بل مدينة من علامات الاستفهام، و هذه المرأة العارية هي الإجابة التي يريدها في وجدانه..
كيف استطاع أن يقع في حب صخرة؟، و لكنها عذبة مثل الماء الذي يخرج من تحتها، يومها تقدم نحوها، و انحنى احتراما و كأنه يطلب يدها للزواج، و ملأ كوبه من الماء، و شربه دفعة واحدة و هو يمشط جسمها الصخري، كم هي عذبة “عين الفوارة”، و كم هي غامضة هذه الأنثى التي تحرس المكان، يذكر جيدا كيف بات حزينا عندما اغتالها الإرهاب بتهمة التبرج و السفور، قال في نفسه: و لكنني لم أحس يوما جهتها بأي لذة جنسية، بل كنت أحترمها و فقط…
و كم كان سعيدا عندما رآها تستعيد الحياة الثابتة عندما رمم الصخر، و لكن نهدها يحسه فقد بعض الاستدارة، و كذلك خطوتها حرفت قليلا، و هناك بعض التجاعيد يدأت تظهر بمرور الوقت على جلدها، لم يصدق أن الصخر يمكنه أن يشيخ..
أحس بإبطاء في سرعة السيارة، و صديقه يهمس: حاجز للدرك.. حضر الفاتورة
أضاف: أتمنى أن لا يضايقونا..
أوقفهم رجال الدرك جانبا، تقدم منهم دركي برتبة رقيب، طلب منهم أرواق السيارة، و هو يمرر عينيه على عجلات العربة، لاحظ ثقل السلع التي تحمل من الوراء، طالبهم بفاتورة البضاعة وهو يسأل عن نوع البضاعة، لم يكن ليمر عليه أمر تزوير الفاتورة، رشقهم بنظرة تدل على مكر مبيت و هو يقول:
يمكنني ببساطة و سهولة مصادرة البضاعة و السيارة أيضا..
نزل صديقه و انزوى مع الدركي جانبا، لاحظ أن هناك حديثا و نقاشا حادا كان يجري بين صديقه و الدركي، لوهلة انتابه الخوف و هو يفكر كيف يمكن أن تذهب تجارته كلها في غمضة عين، كيف يمكنه العودة للبيت، بل هل يستطيع الخروج من هذا المأزق؟، فهذا تهرب ضريبي، و ربما لاق مصير السجن لمدة طويلة، أين يمكنه الهرب بمصيره؟ فأبواب العمل مغلقة في وجهه، حتى التجارة التي أنشأها بتعب و جهد كبير، عانى الويل و هو يؤسس لها، و كم انتابه الخوف أيام الإرهاب و سنين الجمر.
ثم تممتم كلمات تشبه غمغمة ميت يوشك على الرحيل: مثله مثل البقية، يبحث عن سبب للرشوة..
و لكن كيف يمكن أن نتخلص من مضايقاتهم؟، كانت فكرة شاردة لا تعرف جوابا، فلو أقدم على التجارة بحسب القوانين لبارت تجارته، و إن هو واصل العمل هكذا، فهو مثل من يقوم بتحريم تعبه على نفسه، واصل حيرته ليصل لجواب عن مصير أمثاله الذين امتلأ بهم الحاجز الأمني، و كأن الوطن هو قسم شرطة تقدم فيه القرابين…
عاد صديقه بسرعة و هو يطلب مبلغا من المال لفدية تجارتهم.
وصلا سوق الحراش باكرا، عند منتصف النوم، و مجموعة من المتسكعين يجوبون المكان، بحثا عن زملائهم من مدينتهم، ركنا السيارة قرب شاحنة لبيع قطع الغيار لأحد الأصدقاء.
نزلا و ألقيا التحية، ردها زميلهم و مجموعة شباب تعمل لديه، و أردف:
-هناك مجموعة من اللصوص تجوب السوق، عليكم أن تكونا حذرين..
تساءل بداخله، هل امتلأ الوطن بقطاع الطرق، لصوص نظامية تزعجنا في الطريق و لصوص هنا تسرق منا لحظات الراحة؟
فتحت أبواب السوق مع آذان الفجر تقريبا، حيث كان يردد المؤذن: الصلاة خير من النوم، و كأنه كان يقصد من كان يزدحم بهم السوق.
تعالت الصيحات و الصراخ و زاد الزحام، و كانا يعملان بنشاط ملحوظ، أحس برغبة في البول، طلب من أحد التجار أن يساعد زميله حتى يحضر.
و انزوى في مكان ممتلئ برائحة البول، جدار مهترئ، يشبه لوحة فنية، هنا كتبت عليه،-تربى و لا تبل على الجدار-، و أخرى: ملّ الجدار من رائحة البشر العفنة.
أحس بخطوات تقترب منه، و شيء حاد قد وضع على مكان كليته تماما، انتبه ليجد مجموعة من اللصوص تحيط به، و زعيمهم يهمس: إن صدر منك صوت وقعت ميتا، هات ما عندك من نقود.. أجاب و الخوف يعتلي ملامحه: ليس عندي درهم واحد.
عندها لاذ اللصوص بالفرار، ليحس هو بدفء في كليته، تحسسها جيدا، كانت دافئة و لزجة، و كأنها تريد الخروج من مكانها، جثا على ركبتيه و هو يتألم، حاول السير، خانته رجلاه.. و استسلم للدفء، للنوم..فقد تركه اللصوص أخيرا ينام.
قاص جزائري

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *