بعد الحفل


*كارل أوف ناوسجارد/ ترجمة: أحمد شافعي


صدر الجزء الرابع من الترجمة الإنجليزية لسداسية «نضالي» للكاتب النرويجي كارل أوف ناوسجارد في الثامن والعشرين من أبريل الماضي، ويتناول هذا الجزء العامَ الذي بلغ فيه ناوسجارد الثامنة عشرة وعمل فيه معلما في شمال النرويج، متعرضا بالتفصيل لهموم ذلك الشاب: كيف يقابل البنات، ويشرب حتى الثمالة كلما أمكن، وكيف يكون كاتبا، ولكنه يبقى أيضا، كما في جميع أجزاء الكتاب الذي يشغل العالم منذ سنوات، استكشافا لأبي ناوسجارد وكيفية تحوله الغامض العجيب في منتصف عمره من المسيطر على ناوسجارد في طفولته إلى فاقد السيطرة على حياته نفسها. ذكريات الكاتب عن تلك الفترة تقطع سردية ذلك العام الذي قضاه في شمال النرويج، والجزء التالي مقتطف محرَّر من الكتاب، ويعرض للعلاقة بين كارل أوف وأبيه بعد انتهاء زواج الأبوين.
كريسيدا لايشُن
***
(2)
وأشار [أبي] إلى أريكة بجوار السور قائلا: اقعد.
كان شباك المطبخ مفتوحا، ومن الداخل تأتي أصوات الأكواب والأطباق.
قال «يوني مشغولة بالداخل، ستأتي حالا»، وكانت عيناه زجاجيتين.
خطا باتجاهي، فتناول الولاعة من على المنضدة، وأشعل الفحم، وارتفع في الشواية لهب خافت، شبه شفاف، أزرق عند القاع، لم يبد أنه متصل بالفحم على الإطلاق، بل كما لو كان يطفو من فوقه.
«عندك أي أخبار من ينجفي؟»
قلت: «نعم. مرَّ علينا سريعا قبل أن يسافر إلى بيرجن»
قال بابا: «لم يمرّ يعني»
«قال إنه سيمر، ويطمئن عليك، لكن لم يكن لديه وقت».
حملق أبي في اللهب الذي كان قد انخفض. استدار ومضى إليّ، فجلس على مقعد شاطئي، وجاء من حيث لا أدرى بكأس وزجاجة نبيذ أحمر. لا بد أنهما كانا على الأرض بجواره.
قال: «كنت أسترخي بقليل من النبيذ، الدنيا صيف على أي حال، كما تعرف».
قلت:«صحيح».
قال:«أمك لم يكن يعجبها هذا».
قلت:«فعلا؟»
قال: «لا لا لا. لم يكن ذلك جيدا أبدا».
قلت:«لا».
«أيوة» وتجرع ما في الكأس مرة واحدة.
قال: «جانر كان هنا، يشمشم، وطلع من هنا مباشرة إلى جدتك وجدك ليقول لهما ما رآه».
قلت: «أنا متأكد أنه جاء فقط لزيارتك»، فلم يردّ أبي، وأعاد ملء كأسه.
صاح «ألن تأتي يا يوني؟ ابني عندنا، جاء».
سمعنا صوتها من الداخل «أوكيه، قادمة».
قال «لا، كان يشمشم، وبعدها يتزلف إلى جديك».
حملق في نقطة ما في منتصف المسافة بيننا والكأس في يده، ثم أدار رأسه باتجاهي.
«تحب أن تشرب شيئا؟ كوكا؟ أعتقد أن لدينا منها في الثلاجة، قم اطلب من يوني».
وقفت، سعيدا أنني سوف أمضي عنه.
عمي جانر، شقيق أبي الصغير، كان رجلا متزنا عاقلا لطيفا معتدلا في كل شيء، وطوال عمره كان كذلك، لا شك في الأمر على الإطلاق. فمن أين كان اغتياب أبي المفاجئ له؟
بعد إضاءة الحديقة المبهرة، لم أستطع أوّل الأمر أن أرى كفّي في المطبخ. وضعت يوني المكنسة القصيرة من يدها، وقامت فاحتضنتني.
ابتسمت قائلة: «جميل أن أراك يا كارل أوف».
رددت ابتسامتها بابتسامة، وكانت شخصا دافئا. في المرات التي التقيتها فيها وجدتها سعيدة، متوردة تقريبا من السعادة، وكانت تعاملني معاملة الكبار. بدا أنها تريد أن تكون قريبة مني، وكنت أحب ذلك وأكرهه في آن واحد.
قلت: «وأنا أيضا. بابا قال إن هناك كوكا في الثلاجة».
فتحت باب الثلاجة وأخذت زجاجة، جففت يوني كأسا وأعطته لي.
قالت: «أبوك رجل طيب، ولكنك تعلم هذا، أم ماذا؟»
لم أردّ، مكتفيا بالابتسامة، وحينما تأكدت أنها لم تفهم من صمتي النفي، خرجت من المطبخ».
كان بابا لم يزل جالسا هناك.
سألني وقد عاد يحملق في نقطة منتصف المسافة بيننا «ما الذي قالته ماما؟»
قلت: «عن أي شيء؟»، وجلست، وفتحت الزجاجة وملأت الكأس حتى نهايته فصار عليّ أن أنحيه عن جسدي وأتركه ينثر رغوته على حجارة الأرض.
لم يلاحظ مجرد الملاحظة.
قال: «يعني، عن الطلاق».
قلت: «لا شيء تقريبا».
قال:«أتصور أنني الوحش. هل تجلسون معا وتتكلمون عن الوحش؟»
«لا، على الإطلاق، صدقني»
وكان صامتا.
كان بوسعك أن ترى من فوق السياج الخشبي الأبيض أجزاء من النهر، مخضرَّة في نور الشمس، وأسطح البيوت في الضفة الأخرى. كان ثمة شجر في كل مكان، تلك الكائنات الخضراء الجميلة التي لا توليها مطلقا حقها من الانتباه، بل تعبر بها وحسب، تلحظها ولكنها لا تترك في نفسك انطباعا كبيرا كالذي تتركه الكلاب أو القطط، ولكنها في حقيقة الأمر، وإن أنت أوليتها بعض التفكير، حاضرة حضورا يذهب بالعقل أكثر مما سواها.
اختفى اللهب في الشواية تماما، وتوهجت بعض قطع الفحم بلون برتقالي واستحال بعضها أبيض رماديا، وبعضها ظلّ على سواده الذي كان له من قبل. تساءلت إن كان بوسعي أن أشعل. كانت معي علبة سجائر في سترتي. لم تكن هناك مشكلة في التدخين في حفلهم، ولكن الأمر اختلف عن المسموح به الآن.
شرب أبي. ربت على الشعر الكثيف في جانب رأسه. صبّ في كأسه نبيذا لم يملأه بالكامل، فقد كانت الزجاجة فارغة، رفعها في الهواء وتمعّن في الملصق، ثم وقف ودخل البيت.
قررت أن أكون معه على أكبر قدر أستطيعه من الطيبة. بغض النظر عما فعله، سأكون ولدا طيبا.
جاء ذلك القرار في اللحظة التي هبّت فيها نسمة من البحر، وبطريقة غريبة ارتبطت الظاهرتان بداخلي، كان في الأمر شيء من الطزاجة، كان فيه ارتياح بعد يوم طويل من البلادة.
عاد، تجرّع القليل الذي في كأسه، وشحنه من جديد.
قال وهو يجلس: «أنا الآن تمام التمام يا كارل أوف، ونحن نقضي معا وقتا جميلا».
قلت: «أرى ذلك عليك تماما».
قال: «نعم» وهو غافل عني.
شوى أبي بعض شرائح اللحم، وحملها إلى غرفة المعيشة حيث كانت يوني قد جهّزت المائدة بمفرش أبيض وأطباق وكؤوس جديدة لامعة، لا أعرف لماذا لم نجلس بالخارج، ولكني افترضت أن لذلك علاقة بالجيرانأ فأبي لم يكن يحب مطلقا أن يراه أحد لا سيما في موقف حميمي، وكان تناول الطعام كذلك بالنسبة له.
اختفى لدقائق رجع بعدها وقد ارتدى القميص الأبيض المكشكش ذا الأزرار السوداء الذي كان يرتديه في حفلهما.
كانت يوني قد سلقت ـ ونحن جالسان بالخارج ـ بعض البروكلي وأدخلت بعض البطاطس الفرن. صبّ أبي نبيذا أحمر في كأسي، وقال إن بوسعي أن أتناول كأسا مع الطعام، لكن ليس أكثر من ذلك.
أثنيت على الطعام، وكانت نكهة الكباب بالذات تطيب لا سيما حينما يتوفر لك لحم جيد كذلك.
«سكال» قال أبي «سكال لـ يوني».
رفعنا كؤوسنا ونظرنا إلى بعضنا البعض. قالت «ولـ كارل أوف».
ضحك أبي قائلا: «ولم لا أنضم إلى النَخْبِ أنا الآخر؟»
كانت تلك لحظة الاسترخاء الأولى، واستشرى الدفء في جسدي. التمعت عينا أبي بوميضٍ مفاجئ ومضيت آكل أسرعَ بوازع من ابتهاج تام.
قال أبي وهو يضع يدا على كتف يوني «وقتنا لطيف هكذا، أنا وهي»، فضحكت يوني.
ولم يكن من قبل ليستخدم تعبيرا مثل لطيف هذا مهما حدث.
نظرت إلى كأسي ورأيته خاويا، ترددت، وضبطت نفسي مترددا، وضعت الملعقة الصغيرة في قطعة بطاطس لأخفي توتري ثم مددت يدي عبر المائدة إلى الزجاجة.
لم يلاحظ أبي، أنهيت الكأس بسرعة وصببت الثالث. لفّ سيجارة ولفّت يوني سيجارة. اضطجعا في كرسييهما، قال «لا بد لنا من زجاجة أخرى» ودخل المطبخ، ولما رجع وضع ذراعه حولها.
ذهبت فأحضرت السجائر من سترتي، وجلست وأشعلت، ولم يلاحظ أبي ذلك أيضا، نهض مرة أخرى وذهب إلى الحمام، فلم تكن مشيته متزنة. ابتسمت لي يوني.
قالت: «سأقوم بتدريس النرويجية للمرة الأولى في هذا الخريف، لعلك تعطيني بعض النصائح؟ هذه هي المرة الأولى لي».
«طبعا»
ابتسمتْ وسدّدت نظرها إلى عيني، فخفضت عيني ورشفت رشفة أخرى من النبيذ.
قالت:«بما أنك مهتم بالأدب، ألست كذلك؟»
قلت: «يعني. من بين أشياء أخرى».
قالت: «وأنا أيضا، لم أقرأ قدر ما كنت أقرأ وأنا في سنك».
«امم».
«خضت في كل ما وقعت عليه عيناي. كان نوعا من البحث الوجودي، فيما أتصور، وكان في ذلك الوقت في غاية الاحتدام».
«امم»
«تلاقيتما فيما أرى» هكذا قال أبي من ورائي. «هذا جيد. لا بد أن تتعرّف بيوني يا كارل أوف. إنها شخص رائع. تضحك طول الوقت، أليس كذلك يا يوني؟»«ليس طول الوقت» قالت وهي تضحك.
جلس أبي ورشف من كأسه وفيما كان يفعل ذلك كانت عيناه خاويتين كعيني حيوان.
مال إلى الأمام.
«لم أكن لك دائما الأب الجيد يا كارل أوف.أعرف أن هذا ما تفكّر فيه».
«لا، ليس هذا ما أفكر فيه»
«شوف شوف، لا داعي للغباء. نحن لسنا مضطرين للاستمرار في التظاهر بأي شيء. أنت تعتقد أنني لم أكن دائما أبا جيدا، وأنت على حق، أنا ارتكبت الكثير من الأخطاء، ولكنك لا بد أن تعرف أنني كنت دائما على أفضل ما استطعت أن أكون إياه. فعلا».
طأطأت. فقد قال آخر ما قاله وفي صوته نبرة تضرّع.
«عندما ولدتَ يا كارل أوف، كانت هناك مشكلة في إحدى ساقيك. هل تعرف هذا؟»
قلت: «يعني».
«جريت إلى المستشفى في ذلك اليوم، ثم رأيتها، وكانت ساقك ملتوية، فوضعت في جبس، فأهمني، وكنت نائما، صغيرا جدا، والجبس محيط بساقك كلها. وعندما أزيل الجبس كنت أدلكها لك. مرات كثيرة في كل يوم على مدار شهور عديدة، كان لا بد أن نفعل ذلك لكي تقدر على المشي، كنت أدلك ساقك يا كارل أوف، كنا نعيش في أوسلو في ذلك الوقت. عارف».
انساب الدمع على خديه، ألقيت نظرت على يوني، كانت تنظر إليه وتشد على يده.
قال: «لم يكن لدينا نقود أيضا. كان علينا أن نخرج لنقطف التوت، وكان عليّ أن أذهب لصيد السمك لنجد قوت يومنا. هل يمكن أن تتذكر ذلك؟ فكّر في ذلك وأنت تفكّر في ما كنّا عليه. لقد بذلت أقصى ما في وسعي، لا يجب أن تصدق غير هذا».
قلت:«لا أصدق غير هذا. حدثت أشياء كثيرة، لكنها لم تعد مهمة»، رفع رأسه فجأة.
قال: «بل هي مهمة. لا تقل هذا!»
ثم لاحظ السيجارة بين أصابعه، فتناول الولاعة من المائدة وأشعلها، واضطجع.
قال: «ولكننا الآن نقضي وقتا لطيفا على أية حال».
قلت:«نعم. كانت وجبة رائعة».
«يوني أيضا عنها ولد، تعرف هذا؟ وفي مثل سنك تقريبا».
قالت يوني «لا داعي أن نتكلم عنه الآن. عندنا كارل أوف هنا».
قال أبي: «لكنني متأكد أن كارل أوف يود أن يسمع. سيكونان كالأخوين. أليس كذلك؟ ألا توافقني يا كارل أوف؟» أومأت.
قال: «إنه شاب ظريف. قابلته هنا منذ أسبوع».
ملأت كأسي مراعيا ما استطعت ألا ألفت النظر.
رنّ جرس التليفون في غرفة المعيشة، فنهض أبي ورد عليه.
قال: «أوبّااا» وقد أوشك أن يفقد توازنه ثم اتجه إلى التليفون «حاضر حاضر، أنا في الطريق».
رفع السماعة وقال: «هاي آرني»
كان يتكلم بصوت مرتفع، كان بوسعي أن أسمع كلَّ كلمة لو شئت ذلك.
همست يوني «مرَّ في الفترة الأخيرة بتوتر هائل. وهو بحاجة إلى تنفيس بعض البخار»
قلت: «أرى هذا»
قالت: «عيب جدا من ينجفي أنه لم يحضر». ينجفي؟
قلت: «كان لا بد أن يرجع إلى بيرجين».
قال أبي: «نعم يا صديقتي العزيزة، أنا متأكد أنك تفهمين»
قلت: «من آرني؟»
قالت: «قريبة لي. قابلناهم في الصيف. لطفاء للغاية. لا بد أن تقابلهم».
قلت: «أوكيه».
عاد أبي فرأى الزجاجة شبه خاوية، فقال «هيا نتناول بعض البراندي، ماشي؟ للهضم يعني؟»
قالت يوني وهي تنظر لي: «أنت لا تشرب البراندي، صح؟»
قال أبي: «لا، الولد لا يجب أن يتناول المشروبات الروحية».
قلت: «سبق أن شربت براندي. هذا الصيف. في معسكر للتدريب على كرة القدم».
نظر أبي إليّ وقال «وماما تعرف؟»
قالت يوني: «ماما؟»
قال أبي: «يمكنك أن تأخذ كأسا واحدا، لكن ليس أكثر» ونظر إلى يوني «هل هذا صواب؟»
قالت: «نعم، لا مانع».
ذهب فجاء بالبراندي وكأس، ملأه واضطجع في الأريكة العميقة البيضاء تحت الشبابيك المواجهة للطريق، حيث كان الغسق في تلك اللحظة معلقا مثل ستار على الجدران البيضاء في البيوت المقابلة.
وضعت يوني ذراعها حوله ويدها في صدره. ابتسم أبي وقال «أترى كم أنا محظوظ يا كارل أوف؟»
قلت «نعم»: وارتعدت إذ التقى البراندي بلساني، وارتعش كتفاي.
«لكنها عصبية أيضا، عارف، أليس كذلك يا يوني؟» قال أبي
قالت وهي تبتسم: «بالتأكيد»
قال: «رمت المنبه مرة فارتطم بهذا الجدار»
قالت يوني: «أحب أن أطرد الأشياء من صدري على الفور».
قال: «ليست كأمك»
قال يوني: «ألا تستطيع إلا أن تتكلم عنها طول الوقت؟»
قال أبي: «لا، لا، لا، على الإطلاق. لا تكوني حساسة هكذا. لديّ في النهاية ولد عندها. هذا ابني. ولا بد أن نكون قادرين على الكلام أيضا».
قالت يوني: «أوكيه. تكلما. أنا سأذهب لأنام» ونهضت.
قال أبي: «لكن يا يوني …»
دخلت الغرفة المجاورة، فنهض وتبعها بهدوء دون أن يلقي نظرة.
سمعت صوتيهما، مكتومين وغاضبين. أنهيت البراندي، وأعدت ملء كأسي، ووضعت الزجاجة بحذر في مكانها بالضبط.
أه يا عزيزتي.
صاح.
بعدها مباشرة رجع.
قال: «متى موعد آخر أتوبيس، هل قلت لي ذلك؟»
قلت: «الحادية وعشرة».
قال: «هي تقريبا كذلك. ربما الأفضل أن تذهب الآن. وإلا يفوتك».
«أوكيه» قلت ونهضت. وكان عليّ أن أباعد بين قدمي لكي لا أترنح. ابتسمت «شكرا على كل شيء».
قال: «فلنبق على تواصل. حتى إذا لم نكن نعيش معا، لا ينبغي أن يتغير شيء بيننا. هذا مهم».
قلت: «نعم»
«هل تفهمني؟»
قلت: «نعم. مهم أن نبقى على تواصل».
قال: «أنت لا تجاريني وحسب، أليس كذلك؟»
قلت: «لا، لا، بالطبع لا. مهم الآن أنك طُلِّقْتَ».
قال: «نعم، سوف أتصل. وأنت مُرَّ بي حين تمرّ بالبلدة. تمام؟»
قلت: «نعم»
أوشكت أن أقع وأنا ألبس حذائي وكان عليّ أن أستند إلى الجدار. فيما جلس أبي على الأريكة لا يلاحظ أي شيء.
صحت وأنا أفتح الباب «باي».
قال أبي من الداخل: «باي يا كارل أوف» ثم خرجت إلى العتمة متجها نحو محطة الأتوبيس.
مررت بأبي في يوم آخر، لكن كان واضحا أنه لا يريد أن يراني. بعدنا غادرت، سرت في طريق المشاة عابرا البناية المربعة الكبيرة ذات السوبر ماركت حتى جسر لوندسبرو حيث دائما ما تكون رائحة البحر أقوى والضوء أيضا يبدو أقوى، ربما لأنه يكون منعكسا على الماء، الذي يتسع عند هذا الموضع.
كان شراعان أبيضان باديين للعيان بعيدا، وكان قارب في طريقه للدخول، فتوقفت، ووضعت يدي على السور الحجري واتكأت، وكانت المياه من حول العمدان عميقة الخضرة.
مرّةً وقع أبي هنا، وتلك ربما تكون القصة الوحيدة التي حكاها لنا عن طفولته، ضربه جدي علقة محترمة، حسبما حكى لنا، وحبسه في بئر السلم، حيث ظل لساعات عديدة هناك.
لا أعرف إن كانت هذه القصة حقيقية أم لا، فقد قال أبي أيضا إنه كان لاعب كرة قدم واعدا وإنه لعب لـ آي كيه ستارت، ثم تبيّن أنها كذبة. ومرة أخرى قال إن كل ما فعله البيتلز كان سرقة، وإنهم كانوا يسرقون أغنياتهم من موسيقي ألماني مجهول، وعندما سألته، وكنت في الثانية عشر ومغرما بالبيتلز، كيف عرف هذا قال إنه كان في صباه يعزف البيانو وإنه مرة عزف مقطوعة لموسيقيه الألماني الذي لا يذكر اسمه هذا فاكتشف أنها نفس ألحان البيتلز، وإن الموسيقى لا تزال في البيت. صدقته، طبعا، فهو أبي، وسألته إن كان يمكن في المرة التالية التي نذهب فيها إلى البيت أن يجد النوتات ويعزف الموسيقى على البيانو، فقال لا، لأنها موضوعة في المخزن العلوي، وسيحتاج وقتا طويلا لكي يعثر عليها، وفجأة نزل عليّ الاكتشاف! لقد كان يكذب، أبي كان يكذب.
كان في ذلك الاكتشاف ارتياح، لا عبئا، فقد أنقذ لي البيتلز.
ظللت أمشي، أخذت الطريق المختصر إلى اليمين، وخرجت من كوهولمسفين وسرت على المنحدر الخفيف ومن هناك رأيت البحر يتسع، بالغ الهجران والزرقة.
وفي عصر أحد الأيام، وكانت الدراسة قد بدأت منذ أيام قليلة، لم يكن لديّ ما أفعله بعد الحصص، وكانت الساعة لا تزال الثالثة والنصف فذهبت لأرى إن كان أبي في البيت، وقفت خارج البيت وطرقت الباب، فلم يحدث شيء، تنحيت إلى جانب ونظرت من شباك، فبدا البيت خاويا وكنت على وشك أن أتجه إلى محطة الأتوبيس عندما ظهرت عربته الـ أسكونا الخضراء الفاتحة.
أوقف السيارة.
وحتى قبل أن يخرج من السيارة كنت أرى أنه على حاله التي عرفته عليها. صارم، حازم، منضبط، نزع حزام الأمان، وشدّ حقيبة بجواره، ووضع قدما على الأرض، لم ينظر إليّ وهو يعبر الطريق.
قال: «تنتظرني؟»
قلت: «نعم. فكرت أن أمرّ».
قال: «لا بد أن تتصل مسبقا، فاهم».
قلت: «نعم. لكني كنت في المنطقة…» وهززت كتفي.
قال: «لا شيء يجري هنا. فأحسن لك أن تلحق الأتوبيس إلى البيت».
قلت: «أوكيه».
«وفي المرة القادمة تتصل، أوكيه؟»
قلت: «حاضر».
وأدار لي ظهره وأولج المفتاح في القفل. بدأت أمشي باتجاه محطة الأتوبيس. كان على حق حينما قال إنه خير لي أن أذهب إلى البيت. الحقيقة أنني لم أكن زرته لأجل نفسي بل لأجله هو، فلو كانت الزيارة غير مناسبة، فالأمر لا يزعجني. بل العكس بالضبط.
اتصل في العاشرة والنصف مساء، وبدا سكران.
قال: «هاي، أنا بابا. لم تنم بعد؟»
قلت: «لا، سهران قليلا»
قال: «أنت مررت في وقت غير مناسب. لكن لطيف أنك تأتي لتزورنا. لم يكن الأمر كما بدا. هل تفهم؟»
«نعم، بالطبع».
«لا تقل لي نعم بالطبع. مهم أن يفهم أحدنا الآخر».
قلت: «نعم، أعرف أن هذا مهم».
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *