هوفيك حبشيان
شعورٌ غريبٌ ملأنا اليوم خلال مشاهدة “ايفيرست” للمخرج الايسلندي بالتازار كورماكور، في افتتاح الدورة الثانية والسبعين لـ”موسترا” البندقية (2- 12 الجاري). فهذا الشريط المعروض خارج المسابقة الرسمية (تتضمن 21 فيلماً)، الذي تجري معظم فصوله الدرامية في أعلى قمم جبال الايفيرست، يحملنا في جو نقيض للطقس الحار المسيطر على جزيرة الليدو منذ بداية الصيف، والطقس هذا وفق توقعات الأرصاد الجوية ينعم بأيامه الأخيرة. عواصف ثلجية جارفة، جليد، رياح تحمل الموت والصقيع والغضب، هذه بعض الأجواء التي واكبناها طوال ساعتين ونيف في هذا العمل الضخم إنتاجاً وتصويراً (ثلاثي البُعد)، ولكن الخالي من كل بُعد بسيكولوجي، العلة التي ترمي الفيلم في أحضان السينما التجارية الواسعة الانتشار التي تخضع لها المهرجانات الدولية من وقت الى آخر لضرورات الترويج والجذب.
الحبكة التي يستند إليها “ايفيرست” تستلهم حادثة جرت العام 1996: ثمانية من متسلقي جبال هيمالايا قضوا، بعدما هبّت عليهم عاصفة ثلجية وتركتهم كتلة جامدة وسط الطبيعة. الكاتب والمتسلّق الأميركي جون كراكوير نشر تفاصيل مقتلهم في كتاب تحول إلى بست سيللر (أميركا الانتهازية دائماً وأبداً…)، في السنة التي تلت المأساة. ثمة شخصيات عدة من الفيلم، نراها تلتحق بهذه الرحلة القاسية والخطرة حيث تتمرّد عناصر الطبيعة على الإنسان، تجرفه إلى هامشها، ثم تعيده إلى حجمه. إثنان يقودان الرحلة المدهشة إلى الأعالي: أحدهما نيو زيلاندي (جايسون كلارك) والثاني أميركي (جايك غيلنهول). مصيرٌ قاس في انتظار هذين، شأنهما شأن الآخرين. ليس الإمساك بخيوط التشويق هو ما يطمح إليه نصّ كورماكور، فهو يريد إظهار الكيفية بدلاً من أيّ شيء آخر، وهذا الخيار لا يحول دون زجّه في منطق السينما الاستعراضية ذات العضلات المفتولة (بلغت تكلفة الفيلم نحو 70 مليون دولار). في المجال الأخير حصراً، يقدّم كورماكور فيلماً قوياً فعالاً لا تشوبه شائبة. أما الموت والهلاك على ارتفاع تسعة آلاف كلم- هناك على “سقف العالم” كما هو معروف- فلا يفتح المجال لتأويلات واجتهادات ميتافورية عدة.
يصعب إسقاط معان كثيرة على فيلم مسطّح رغم تضاريسه. وكذلك تزويده بتيمات خالدة تعود إليها السينما مراراً في مثل هذه الأفلام، كغريزة البقاء أو سخط الطبيعة الأنانية التي لا تبالي بالحياة البشرية البتة. فالطبيعة لها الكلمة الفصل دائماً. السيناريو الذي يزدحم بشخصيات لا عمق لها، يمتنع عن الاتيان بلمسة جديدة. لا جديد حتى على سقف العالم، وقد يكون هذا المستجد الوحيد في الفيلم والحقيقة الوحيدة التي تتسرّب منه. فما إن يصل المتسلّقون إلى القمة، حتى نشعر بمحدودية الفعل وبالملل الذي يصيب المشروع بأكمله. هذا برهان آخر على أنّ متعة الحياة في الطريق التي تجعلنا نسلكها لبلوغ الهدف وليست في الهدف ذاته. حتى هذه الأفكار الصغيرة التي نلملمها هنا وهناك، تأتي بجرعات قليلة، وفي قالب غير مبتكر وغير مستفز، بل يجتازه بعض الملل، خصوصاً أنّ المعالجة السطحية للشخصيات لا تجعلنا نتعاطف معها كما ينبغي.
التُقطت مشاهد “ايفيرست” (إنتاج بريطاني) في ثلاثة مواقع طبيعية: جبال الألب الإيطالية، وأيسلندا حيث مسقط المخرج، وفي قاعدة في الايفيرست النيبالية. مكان رابع هو ستوديوات بوكنغهامشاير حيث صُورت مَشاهد إضافية. صحيح أنّ المؤثرات البصرية مدهشة وهي مفخرة الفيلم، لكنها جاءت – وفق تصريح المخرج خلال المؤتمر الصحافي – بعد أيام وأيام من التصوير في الجبال الشاهقة. مدير المهرجان ألبرتو باربيرا لم يخفِ رغبته في أن يحظى الفيلم بمصير مشابه لمصير الفيلمين الأخيرين اللذين عُرضا في افتتاح الـ”موسترا”، أي “جاذبية” و”بردمان” (“أوسكارات” وانتشار دولي وترحيب نقدي واسع)، بيد أنّ مستوى “ايفيرست” لا يرقى البتة الى مستوى الفيلمين المذكورين. هذا الفيلم في بعض لقطاته إعجاز تقني، صورةً وصوتاً في المقام الأول. وربما لأن كورماكور أقدم على نزع العواطف من الفيلم وتخفيضها الى حدّها الأدنى، فالتعاطف الإنساني ظلّ شكلياً، خصوصاً في زمن صار الموت فيه محتوماً وليس اختياراً أو ترفاً.
(•) ملاحظة أخيرة: “ايفيرست” من الأفلام التي تنبغي مشاهدتها في صالة، والمفضل صالة “ايماكس”. المشاهدة المنزلية عبر شاشات صغيرة تنتزع من الفيلم سبب وجوده: الإبهار البصري والإحساس بالمكان.
النهار