بطرس المعري
بروفايل 1: اسكندر
لم تمنع أصوات الانفجارات التي كانت تدكّ جدران المدينة ولا الأخبار السيئة التي تمرّ على الشريط الإخباري، على مدار الساعة، من أن يجتمع اسكندر بأصحابه حول مائدة عامرة في أحد مطاعم دمشق القديمة، ومن شرب نخب صحتهم وصحته بمناسبة بلوغه سن السادسة والخمسين. نقل كل منهم خلال السهرة ما سمعه من محطته المفضلة أو من الجيران من أخبار البلد إلى الآخرين. لم يكن هناك مجال لحديث آخر سوى حديث عابر عن ماضي امرأة كانت تجلس مع زوجها على طاولة مجاورة. كانوا يسترقون النظر إليها بالتناوب، فلا زالوا يمنون النفس بامتلاكها ولو ساعة واحدة.
يشارك اسكندر أخاه في متجر للذهب في سوق الصاغة القديم، يقع على بعد حوالي عشرين دقيقة سيراً على الأقدام من بيته في حي باب توما الواقع في المدينة القديمة. وهو أعزب، لم يتزوّج، عرف الكثير من النساء، لكنه لم يجد بينهن بنت الحلال! ولاسكندر أخت وحيدة أيضاً تشاركه السكن في دار العائلة. تكبره جورجيت بست سنوات، هجرها زوجها منذ زمن بعيد وسافر إلى أوروبا وليس لديها منه أولاد. كان اسكندر يتركها لفترات طويلة نسبياً في السنوات الأخيرة ليطير إلى كندا في إقامة لا بد منها للحصول على «البسبور الكندي». كان الجميع من حوله يتكلّمون عن أهمية امتلاك جواز سفر غربي، فهذه البلاد، كما يقولون، «ليست لهم».
غادر الأصحاب المطعم قبل حلول منتصف الليل بدقائق، ساخرين من زمن صاروا فيه يعودون إلى بيوتهم في وقت كانت تبدأ فيه سهرتهم. دخل اسكندر بيته، غرفة أخته مغلقة ولا ضوء يتسرّب من خلال زجاج بابها. إنها نائمة. استلقى على أريكته المفضلة في غرفة الجلوس مقابل طاولة التلفاز، الوقت مبكر للنوم وغداً يوم عطلته الأسبوعية. أخذ بيد جهاز التحكم وراح يضغط على أزراره متنقلاً من محطة إلى أخرى من دون هدف محدد… «يُمَل، قال في سرّه، لا شيء جديد على هذه المحطات كذلك لا قذائف هاون على الحي هذا اليوم، «ربما عرفوا أن اليوم هو عيد ميلادي، مذوقين!».
لقد أصبحت المسألة بالنسبة إليه لعبة «عض أصابع» مع قذائف الهاون… لا يريد مغادرة بيته، بل بالأحرى لا يريد العيش في صقيع كندا ولا أولاد لديه يخاف عليهم، ومازال خط بيروت آمناً. إنها الواحدة صباحاً، توجه اسكندر إلى غرفة نومه ماشياً تحت خدر الكحول اللذيذ والمألوف وفتح درجاً في خزانته، تحسس جواز سفره الكندي ثم أعاده إلى الدرج، اطمأن بعض الشيء، فمازالت المقامرة ممكنة.
بروفايل 2: آنّا ماريا
قلما تغادر آنّا ماريا بيتها الكائن في جرمانا، البلدة التي تحوّلت إلى مدينة صغيرة يسكنها من ليس لديه القدرة على امتلاك السكن في العاصمة. فلا شيء يستدعي خروجها اليومي، لا وظيفة ثابتة لديها، هذا من جهة، ولا تحبّ، من جهة أخرى، أن تترك أباها، الخبير الاقتصادي المتقاعد، وحده في غياب الوالدة. عادت هذه الأخيرة إلى التشيك، موطنها الأصلي، منذ سنتين على أثر انهيار عصبي أصابها، سببته قذيفة ضربت البناء حيث تسكن.
يرتبط خروج آنّا من دارها بالحالة الأمنية، فتذهب بعد الظهيرة برفقة الأصحاب لتحتسي القهوة في مقهى في الشام القديمة، أو تذهب إلى درس خاص في الموسيقا في بيت أحد طلابها تلتزم به مكرهة، فالحياة أصبحت مكلفة جداً هذه الأيام كما تقول. إنها في منتصف العقد الثالث من العمر وهي متخرجة من أحد معاهد الموسيقى التشيكية، تعزف على الكمان وتؤلف أحياناً قطعاً موسيقية صغيرة، كما تكتب وتترجم للأطفال قصصاً قصيرة…
بعد سفر العديد من صديقاتها وأصدقائها، صارت المدينة موحشة بعض الشيء بالنسبة إليها. تتوقع آنّا أن يأتي يوم، ليس ببعيد، تمشي فيه وحيدة في الشوارع، لا أحد غيرها، حتى خلف الأبواب، غرف فارغة تلعب الريح بستائرها… لا أحد غيرها في الشام.
تخيّلت مرة نفسها بأنها صارت «زاد الخير»، تلك الفتاة البسيطة، بطلة المسرحية الرحبانية التي رفضت الخروج من مدينتها، فسلّمها أهل المدينة مفاتيح بيوتهم كناطور لهذه البيوت وهربوا في عتمة الليل. والمفاتيح لا تتكلّم ولا تؤكل كما لا تصلح رداءً.
السفير