عبوة مياه من بحر يافا


*غصون رحال



خاص ( ثقافات )
لم تكن المسافة بين عمان وجنين شاسعة في أي يوم من الأيام كما كانت في الرحلة الأخيرة. 
منذ صار معي هوية “لم شمل” ، قطعت الجسر عشرات المرات ، تجاوزت خلالها شبابيك دولة الاحتلال المخصصة لفحص الهويات دون ضجيج ، أجبت على أسئلتهم الفارغة عن أصلي وفصلي ببلادة ناقة غارقة باجترار العدم، أحمل بعدها حقيبتي واستقلّ الحافلة إلى حيث موقف سيارات الأجرة في أريحا على بعد زفرة ودمعتين.
ذاك المساء ، رحلتي طالت أكثر مما ينبغي ، ليس بسبب حرارة الطقس التي لم تألفها المنطقة منذ عدد لا يحصى من السنين ، ليس بسبب تزاحم المسافرين او سوء التنظيم، ليس بسبب عطل في الحافلة أو فقدان وثائقي ، رحلتي الأخيرة طالت لسبب لم يكن في الحسبان ؛ جواز السفر البريطاني الذي يحمله زوجي!.
زوجي الذي لم تطأ قدمه أرض فلسطين في أي يوم من الأيام ، الذي طالما تساءل عن ماهية الاحتلال ، عن شكل المستوطنات ، عن حواجز التفتيش ، عن وعورة الطرق الالتفافية ، عن الرصاص الحي وقنابل الغاز، عن سُمك الجدار الفاصل وعن لون ورائحة مياه البحر على الساحل الفلسطيني … 
زوجي الذي طالما أغويته بزيارة “البلاد” لأجل معاينة ما تبقى له من مسقط رأس والده في يافا ، الذي تعهدت له أن جواز سفره البريطاني سيؤمن له عبورا سريعا وآمنا إلى الفردوس المفقود ، الذي وعدته بالسباحة في بحر يافا دون قيود …
على شباك فحص الهويات ، أخبر زوجي المخلوق الجاثم خلف الزجاج أنه قادم مع زوجته لقضاء بضعه أيام في قريتها بقضاء جنين ، فجن ذلك المخلوق واحتجز جواز سفره البريطاني وهويتي مطالبا إيانا بالانتظار . مرت الدقائق ثقيلة غامضة ، بعد نصف ساعة من الانتظار المرّ ، جاء من يطلب زوجي إلى غرفة التحقيق ، بعد نصف ساعة أخرى جاء من أعاد لي هويتي ونادى على اسم زوجي الذي أخبرته أنه تم سحبه إلى غرفة التحقيق …
تم إخراج زوجي من غرفة التحقيق وطُلب منه الانتظار من أجل مراسلة السفارة البريطانية للتحقق من بياناته! بعد ساعة من الانتظار استدعي مرة أخرى للتحقيق بحضور محققة تحمل رتبة أعلى.أعيدت عليه الأسئلة ذاتها مرات بعد مرات في محاولة يائسة للعثور على هفوة تعيق عبوره . خلاصة ما كان يسعى إليه الاحتلال هو الحيلولة بين زوجي الذي تبين لهم أنه ” لاجئ ” منذ الولادة وبين البحث عن جذوره الفلسطينية ، وصفعه بتجربة سفر مقيته تمنعه من التفكير ثانية بعبور ذلك الجسر .
تم الافراج عن زوجي حوالي الساعة الواحدة صباحا ، حملنا حقيبتنا ، جرحين وصفعة ، واستقلينا الحافلة إلى أريحا ومن بعدها إلى سيلة الظهر . 
في اليوم التالي ، عبرنا حاجز قلنديا إلى القدس ، وبعدها إلى يافا ، تفقدنا ما تبقى من ميدان المنشيّة ، التقطنا ما تيسّر من صور تذكارية ، ثم توجهنا إلى البحر . 
لم أتمكن من الوفاء بوعدي له بالسباحة في بحر يافا ، فالبحر ليس لي ، إنه لهؤلاء الشتات دوني !
اكتفيت بملئ عبوة بسعة نصف لتر من مياة بحر يافا ، خبأتها في رحل زوجي العائد إلى حيث أبيه في بريطانيا .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *