الحب في زمن الاحتراب


* د. بوزيد الغلى


خاص ( ثقافات )
أضواء على عتبات رواية ” الحب الآتي من الشرق ” 
صدرت قبل أشهر عن مطبعة الورود ، انزكان ، أكادير رواية تقع في أربع و تسعين صفحة للكاتب الشاب أحمد بطاح ، تحت عنوان : ” ” الحب الآتي من الشرق “.
ولكي نكشف المحجوب بين حروف و أحراش الشرق الآتي منه الحب ، نود أن نلقي نظرة على لوحة الغلاف و الإهداء والعنوان ….
لوحة الغلاف :
لعل أول ما يسترعي الانتباه عند تأمل لوحة الغلاف ، هو وجود مستويين : مستوى لغوي و مستوى أيقوني ، و بالنظر إلى المستوى الأول ، نلحظ أن مصمم الغلاف قد نحى منحى معظم الكتاب والناشرين المعاصرين في تخصيص أعلى صفحة الغلاف لاسم الكاتب ، بينما أدرج أسفلها ” المؤشر الجنسي ” ، و هو – حسب ” جيرار جينيت ” -ملحق بالعنوان Annexe du titre ” …. يقوم بتوجيهنا …. أي يأتي ليخبر عن الجنس الذي ينتمي إليه هذا العمل الأدبي ..” ، أي الرواية موضوع تحليلنا .
أما صورة الغلاف المستدِرَّة للتأويل ، فلا تعدو أن تكون عبارة عن ” تشكيل واقعي ، يشير بشكل مباشر إلى أحداث (الرواية ) ، أو على الأقل إلى مشهد مجسَّد من هذه الأحداث” ، فصورة الفتاة الجميل مبسمها التي يُظهر مصصم الغلاف كامل ملامحها وحروف جمالها ، ليست سوى صورة تحاكي الصورة السردية التي رسمها السارد للمحبوبة حيث قال : ( لقد كانت جميلة فعلا ، دافئة العينين ،وتنساب إلى الروح كما ينساب الماء بين الشقوق” ، ورغم أنها أنكأت جراح فتاها ، فقد انوشمت في مخيلته جرحا مبتسما : ” مامية ، أنت الجرح المبتسم في جلد حياتي ….فدعيني أنشر غسيل حبي على حبال ذاكرتك ، دعيني أروي حياتي العطشى لماء غرامك ، دعيني أطمَر حتى الموت في طين اهتمامك ، يا أيتها القمر الساطع نهارا ” . 
و بالنظر إلى تمنع المحبوبة مامية الناشئ عن إدراكها للحب الممنوع ما لم ترتفع حالة الاحتراب و العداوة بين قبيلتها وقبيلة فتاها ، فان فارس أحلامها سيظل رهينةَ هذا النزاع ، و لن يتسنى لها الارتباط به ما لم ينجلِ ليل النزاع المطبق ، ولذلك ، يتراءى في اللوحة فارسُ أحلامها مدبرا عنها في جنح الليل . لقد صارحته حين سألها قائلا :
-” هل أقول إنك لا تفكرين في الحب بتاتا أم لستُ أهلا لأن أكون ذلك الفارس الذي كنت تحلمين به دوما ؟ ،
– إن كل شيء فيك يغري بالحب …لكنني غير مستعدة لهذه العلاقة غير محمودة العواقب ،وغير المباركة ، وهذا إن فعلته ، إنما نزولا عند الأمر الواقع ، وليس من باب أنك غير مرغوب فيك” .
لقد كانت هذه الكلمات المرة مرارة الواقع المؤلم كافية لتعكير صفو مزاج فارس الأحلام المنكسر الذي أقر بالشعور بالكدر في تنافر تام مع صفاء السماء التي تظله ، فلا أثر في الصورة لشيء يكدر صفاء الفضاء الذي يحيط بالفارس الذي يبدو مدبرا ، وقد تركها خلفه دون أن تبرح مخيلته : “كانت السماء صافية فوقي في تناقض تام مع ذاتي المعكرة و المدمرة ، فكل تلك الأحلام التي بنيتها و أعليتها تحطمت الآن …فما ذنبي أنا في حب نما وترعرع مقتاتا من مشيمة القدر ، وولد من رحم الصدفة ؟ ” . 
ورغم الإحباط الذي ران على قلب العاشق المتيم في الفصل الثاني : ” أحلام من الضباب ” ، فانه ظل مستمسكا بقشة أمل هشة متوسما كسر قيود القبيلة :”فلتذهب إلى الجحيم القبيلةُ، فحبي أكبر من ذلك ، بل هو لا يعترف بتلك الأشياء ” .
إن لوحة الغلاف التي طمست ملامح وجه الفارس الذي “ابتلعه الظلام تماما ” ، بحيث لا نستطيع أن نرى سوى ظله المحيل على الحلم (إذ هو فارس أحلام الفتاة البادية على الغلاف ) ، لخصت مآلات شخصيته النامية طيلة السرد ، إذ نتعرف على ملامحه التامة و أوصافه الكاملة وملابسه السوداء في الفصل الأول قبل أن تتلاشى تلك الأوصاف في بحر الإحباط والتذمر ، فهو ” شاب ذو ست و عشرين سنة ، طويل القامة ، عريض المنكبين أسمر البشرة ، وخفيف اللحية … وكان يرتدي سروالا فضفاضا أسود كسراويل السندباد ، و قميصا أسود كلون السروال ” ، وكما اختار الروائي للفارس لُبس السواد الدال على معاني الاستلاب والهم و الغم ، فان مطيته التي قايضها بثلاث نوق و مولود (فصيل) ، كانت أيضا سوداء ، فقد ” كان مربيه يسوق النوق الثلاث أمامه ، و مولود إحداهن يجري عند رجليها الطويلتين ، وهي لا تدري أنها طردت من عشيرتها التي تربت فيها ، وولدت فيها بسبب الحب ، وما هي إلا دقائق حتى عاد مربيه ، و هو يمتطي جوادا أسود قويا …” .
إن الجواد الأسود الذي استخدمه السارد في هذا السياق كي يوافق المنطق السردي la logique narrative ، يقابله الحصان الأبيض الذي ظهر في الفصل الأول ” الضالة ” مساعدا في رحلة البحث عن الناقة التي استحرَّ بها ألم المخاض ، فهامت و نأت عن مضارب خيام أهلها ، وكانت سببا غير مباشر في رؤية بطل الرواية فتاتَه ” مامية ” التي شغفته حبّاً .
بقي أن نشير إلى أن لون لوحة الغلاف المشتق من لون الربيع ، يذكر بالوصف الباذخ للبادية و جمال الربيع الذي يتوازى مع الشوق إلى رؤية الحبيب ، فينسي الفتى الواله وعثاءَ الرحلة :” لقد كنت غارقا في الأحلام الوردية ، وذاكرتي تجدف بمجاديف الاستحضار على بحر البُعد … ولم أفطن عندما وصلت للتل .كنت أقطع منطقة بولفرايج ،وهي سهل كبير ممتلئ بالنباتات القصيرة و الشوكية ، والوديان المنحدرة من الهضاب . من بعيد كنت أرى الطرف الشرقي من تيدركيت ، وكانت تظهر لي أيضا في خط يمثل آخر الدنيا من مكاني خضرةُ الصبار ، أما الخيام فلم تتضح بعد” .
لاحِظ انه في غمرة الشوق و الشجو لم يبصر من الصبار إلا خضرته ، و لو مشى على شوكه لم يشعر بوخزه ، ألم يقل إنه “على الشوق يسير حافي القدمين ” ؟.
الاهداء: 
تدلنا عبارة الاهداء على مصدر الإلهام الذي فاضت من معينه معظم أحداث الرواية ، وهو الجدّة التي ذكرها الكاتب باسمها الجامع لنُثار الذاكرة التي اختزنت ردحا من الزمن هذه القصة المقتنصة بعضُ أحداثها من واقع الاحتراب بين القبائل في زمن ما يسميه الكثيرون ” زمن السيبة “- رغم ما في التسمية من مقادح أخلاقية -، و يسميه العلامة محمد المامي في كتاب البادية ” زمن الفترة ” تلميحا إلى تراخي وفتور السلطة . و بقطع النظر عما يرمز إليه حضور الأسلاف في إهداء الرواية و بعض أحداثها المسرودة في سياقات نوستالجية تذكر بالزمن الجميل ، فان المعول عليه ، هو أن الرواية برمتها عملٌ تخييلي يتوكأ على أحداث الماضي ، الأمر الذي يجعل منها ” محكيا استعاديا يحاول من خلاله شخص معلوم إعادة بناء ما تناثر من وقائع وتقديمها ضمن قصة تروي تفاصيل حياة تتميز بالتماسك و الانسجام ” . وفي عبارة الاهداء : ” جدتي التي حكت لي نصف هذا العمل ، فلم تعش حتى أحكي لها العمل كاملا ” ما يغني عن التدليل على انْبنَِاء الرواية على استعادة محكيات الماضي .
العنوان : 
سعيا إلى كشف خبيئة هذا المركب الخبري : ” الحب الآتي من الشرق ” ، وجب التساؤل عن تمثلات الشرق التي تنقدح في نفس العاشق (البطل ) والمتلقي معا ؟ . 
و كيلا نرجمَ بالغيب ، تعين الأوبُ إلى سياق ورود الشرق في النص : 
-انطلق شرقا ثم ظل يبحث في الفيافي و القفار ، ويقطع التلال والوديان طول النهار ، ويسأل القاصي والداني دون أن يظهر أثر للناقة الفارّة ..” .
-“فتساءلت إحداهن : من هو ذلك الرجل الآتي من الشرق؟ ، فأجابتها أخرى لعله يبحث عن ضالة أو هو عابر سبيل ” 
الشرق في هذه المقاطع ، هو المتّجَه الذي أتى منه الفتى ” مربيه” ، باحثا عن ناقته التائهة ، فوقع في شراك هوى فتاة ” أيقن أنها ضالة عمره” ، إذ رآها بعيني عاشق ولهان ” كأنها كوكب مشبوب رونقا وجمالا و يكسوه الحسن من كل جانب ” ، لكنها صدته بشتى المعاذير ، بدءا من قولها الصريح :”إننا من قبيلتين مختلفتين ،بل طالما دخلتا في مناوشات متعددة ، ولا أظن أن أهلي واهلك سيوافقون على هذا الزواج، و إن وافقوا على هذا الزواج فلن يباركوه أبدا ” ، وانتهاء بمداراتها ومراوغتها اللطيفة : ” لا أظن أننا خلقنا لبعضنا … سأكون أكثر صراحة معك ، فأنا لا أفكر في الحب الآن ” . 
هذا الصدود المشفوع بتيئيس مبطن (يمكنك أن تحلم بعرش من الضباب )” ، لم يقطع طمعه في أن ينال ” عرش قلبها كاملا ” ، أما هي ، فقد كانت توارب حقيقةً حبّ آخر لم تنكشف إلا بعد أن سقط العاشق المولّه مضرجا بالدماء بعد أن طارده أخوها و معاونوه ، وأصابوه في مقتل .
لقد أزاحت أستار اللحظات الأخيرة من حياته ، أن الحب الآتي من الشرق غير حبه الذي تعلق به ، فقد علقت مامية حب رجل آخر ، ليس سوى شقيقه ” سيد أحمد ” الذي صاح بعد أن حاول إنقاذه من الموت بعد أن دعثرته الإصابة على مستوى الكبد من على فرسه : 
” -تلك القادمة من الشرق بلى انها فتاة انها مامية محبوبتي انها الحب القادم من الشرق 
-ممم هل تقول انها حبك 
-نعم انها تحني بجنون ” . 
إن الشرق الذي يموج بالحب في هذا النص ، آتيا منه (مربيه في صولاته وجولاته ) أو آتيا إليه (مامية وهي قادمة …) ، لم يستطع أن يخلصه السارد من صفة ” النار ، الشر …) ، فقد قتل بطل الرواية الآتي من الشرق حاملا لواء الحب ، و بموته قد تدور رحى حرب لا تهدأ إلا لتبدأ في زمن “الغزيان “/أي الغزوات ، و لله در الشاعر الذي قال : 
لعمرك ما المصيبة هدم دار /// و لا شاة تموت و لا بعير ُ
ولكن المصيبة فقْدُ حرّ /// يموت بموته بشر كثيرُ 
لقد أمعن كاتب هذا النص الماتع في محاولة هدم صورة ” الشرق ” في المتخيل الصحراوي القائمة على ربطه بالشر والحرب . فالقول المسكوك السائر ” الشرق بيت نار ، و الساحل بيت مال ” ، انتهى مفعوله في وعي السارد الذي أسبغ على الشرق كل معاني الحب المتلجلج في فؤاد أبطال الرواية الذين اتحدت أصواتهم في كلمة واحدة سالت على ألسنتهم بعبارات متفاوتة الرقة و العذوبة ، و لعل أقوى تلك الأصوات هواجسُ ” الهجالة “/أي الثيب التي قادتها قوانين القبيلة و ذكورة المجتمع الذي لا يأبه برأي النساء إلا قليلا ، إلى فراش رجل لا تشتهيه ، عُلقتهُ قهرا ، و كرهتهُ اختيارا مضمرا ، و اختارت أن تذوي كالعشب في حر الصيف ، حتى أذنت ساعة الفراق محتملة نظرات الناس التي لا ترحم المطلقة .
و لا يخامر القارئ شك في أن الحب البدوي الرائق في الراوية ، يرتبط بالقهر ، ” فلا محبة بلا قهر . و المحب دوما مقهور من محبوبه . ولعل هذه صفة لكل من أحب . فالنفس ، إذا تأنس بالجمال ، تذل له وتنقاد غاية الانقياد كما عبر شاعر عاشق : 
و كم قد أذل الحبُّ من متعزز /// فأضحى وثوب العزّ عنه سليبُ ” .
هوامش الدراسة 
______
عبد المجيد نوسي ، الكليات في الخطاب الاشهاري ، الصورة الاشهارية نموذجا ، مجلة البلاغة والنقد الادبي ، العدد الأول ، صيف 2014، ص 71.
عبد الحق بلعابد ، عتبات ، جيرار جينيت من النص إلى المناص ، تقديم د.سعيد يقطين ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، الطبعة الأولى 2008 ، ص 89.
حميد لحميداني ، ص 59.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 91.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 87.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 40.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 41.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 41.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 19.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 11.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 35.
” .. ثم وجه جواده الأبيض نحو الخيام لعله يظفر بضالته ” ، الرواية ، ص 16.
الرواية، ص 38.
قدمت فاطمة المرنيسي نقلا عن نص لابن حجلة الشجو على الشوق في لائحة أسماء المحبة الخمسين التي أدرجتها في جدول مثبت في ملاحق كتابها : , L’amour dans les pays musulmans ; A travers le miroir des textes anciens
” على الشوق يسير حافي القدمين ” عنوان الفصل الخامس من الرواية ، ص 53.
محمد المامي بن البخاري ، كتاب البادية ، الناشر زاوية الشيخ محمد المامي ، انواذيبو ، مويتانيا ، الطبعة الأولى ، 2006 ،ص 98 (باب في المداراة في بلاد الفترة وهي ” السيبَ” بالحسانية .
سعيد بنكَراد ، السيرة الذاتية ، حقائق التاريخ وممكنات الهوية السردية ، مجلة علامات ، العدد 38 ، ص 3.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 16.

أحمد بطاح ، الرواية ، ص 21.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 21.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص ’40,
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 40.
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 41
أحمد بطاح ، الرواية ، ص 94.
أورده العلامة أبوزيد عبد الرحمان التمنارتي في ” الفوائد الجمة ” .
على حرب ، الحب والفناء ، تأملات في المرأة و العشق و الوجود ، دار المناهل للطباعة و النشر والتوزيع ، الطبعة الأولة 1990 ، ص 107-108.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *