الحب في زمن “السكايب”


*شوقي بزيع

الرؤية إلى الحب بوصفه رديفاً للحرمان والشغف وإقناع الوصال الجسدي ليست خاطئة تماماً . ذلك أن الحب في دلالاته العميقة نار حطبها الغياب، وجمر لا يتأجج إلا بالفراق . كأن غياب الآخر المعشوق يتيح للعاشق أن يؤلفه على الصورة التي يرتأيها، ويمنحه الأسباب الموجبة لتعذيب النفس والتلذذ المازوشي بشقائها المتواصل، وقد بدا الحب العذري عند العرب انعكاساً بالغ الدلالة لمكابدات العشاق الذين أعطوا لحبيباتهم المغيبات سماتٍ ليست لهن في الأصل، وحولوهن في القصائد المكتوبة بالشغاف إلى وجود أيقوني مجرد من الشوائب، والحبيبة في حضورها الجسدي كانت غيرها في الترقب والانتظار، حيث يحتاج التصعيد الشعري والعاطفي إلى حجاب للتخيل يعزل المرئي عن غير المرئي ويمنع اللهفة من الضمور . ولذلك لم يكن غريباً أن يهتف جميل بن معمر في حديثه عن بثينة: “يموت الهوى مني إذا ما لقيتها . ويحيا إذا فارقتها فيعودُ”

على أن هذه الصورة للحب ليست بالضرورة أن تكون الصورة الوحيدة، أو أن يكون غياب الجسد ومحوه شرطاً أساسياً لإعلاء الروح وتأجيج نار الداخل، وما يذهب إليه البعض من أن التطور المذهل في وسائط الاتصال وتوفير فرص التعارف بين الجنسين قد أطاح عاطفة الحب الجياشة وضربها في الصميم، ليس بالضرورة أن يكون الوجه الوحيد للحقيقة . ليس فقط لأن الكيمياء التي تضع اثنين في مهب الانجذاب الضاري لا يفسدها اللقاء، بل لأن خفقان القلب وغليان الجسد والروح يتكيفان مع تغير العصور وأدوات التواصل بين العشاق، وقد يظهران مع رنة الهاتف الأرضي، أو رسالة الجهاز المحمول، أو نص مرسل على صهوة “الفيس بوك”، مثلما ظهرت في السابق عبر الحمام الزاجل، أو الأيدي المجردة لناقلي الرسائل، أو عبر صناديق البريد .
في كتاب الشاعر اللبناني عقل العويط “سكايبنغ”، الذي صدر في بيروت قبل أسابيع، ما يؤكد هذا الزعم ويرسخ فكرة صمود الحب ومضاعفة منسوب اشتعاله، حتى ولو توسل العاشق للتعبير عن ولهه العاطفي أكثر شبكات التواصل الاجتماعي تطوراً وسرعة وصول . ومنذ سطور الكتاب الأولى لا يبذل القارئ كبير جهد لكي يكتشف أن “السكايب” الذي جعله المؤلف عنواناً لعمله الأخير ليس إلا الذريعة الملائمة لحواره الافتراضي مع المرأة المعشوقة، حتى ولو اتخذ الحوار شكل المونولوغ الداخلي حيناً، وشكل الديالوغ العاصف والمشحون بأقصى درجات التوتر والوجد حيناً آخر . وهو ما يوضحه المؤلف في مقدمة كتابه بالقول: “أجدني أحاورك عبر السكايب . لكنك لست هنا، فيما شاشتك مفتوحة على غرائزها وخيالاتها، يغويني أنني أختلق ذريعة تواصلية لأفتح شاشتي على فانتاسماتها وذكرياتها . . وأعتقد أنك تجيئين من نوم افتراضي عميق” .
ليس ثمة من إجابات دائمة إذاً على أسئلة المؤلف العاشق وهذياناته، بل يبدو أحياناً كمن يحدث امرأة في الظنون وأبيات الشعر، وأحياناً أخرى تحضر المرأة المعشوقة، والتي نعرف نحن القراء أنها شاعرة وناقدة وكاتبة، لتساجل عاشقها بذكاء مفرط وجرأة لافتة، من دون أن يظهر من كتابتها انصياع لعاشقها أو تهاون في تأكيد نديتها إزاءه . كأنها بذلك لا تنتصر لذكائها وجسدها وحقوقها الطبيعية في التكافؤ مع الرجل فحسب، بل تنتصر لجوهر الأنوثة العميق الذي لا يتعارض أبداً مع الشرط الإنساني ومبدأ المساواة والحرية .
صحيح أن عقل العويط هو ذاته المنقسم بين صوتي الرجل والمرأة . بين العاشق الغيور الذي يرمي نفسه بكليتها في أتون الغرام المشبوب، وبين المرأة التي، رغم حبها له، تريد لنفسها مساحة من الخصوصية لا يقربها أحد، ولكن المرأة التي ينطق باسمها ليست من عندياته، بل هي امرأة اللحم والدم، التي تؤكد أبداً حضورها الإنساني .

“لن تكوني لي . أعرف . هذه مسألة بديهية . ستكونين ما أنت وستظلين ما أنت . هاربة من نفسك إلى ما أنت فيه . . لكنني لن أغادر”، يعلن الكاتب في إحدى المحاورات، معبراً بذلك عن بذرة المأساة التي تقبع في أعماق كل حب، وعن الرغبة في الامتلاك التي يتقدم الموت وحده ليضع سطر نهايتها الأخير . وكلما صرخت المرأة في عاشقها “خذني كغيمة مستخفة” دفعت به أكثر فأكثر إلى الرزوح تحت ثقل الصخرة السيزيفي، بحيث يبدو كل منهما غريب الآخر لا حبيبه فحسب .
اللغة في كتاب عقل العويط حارة ومتوهجة ومتوترة على ليونة ونشيج، وهي من هذه الزاوية مغايرة للغة الشاعر في كتابه السابق “وثيقة ولادة” . والكتاب أقرب إلى الابتهال العاطفي وإعلان السقوط في اللجج القصية للحب . وربما شكل تصادياً غير مقصود مع “نشيد الإنشاد”، أو “رسولة” أنسي الحاج، أو نشيد بول شاوول المؤثر “كشهر طويل من العشق” . لكن الشاعر في النهاية ليس سوى نفسه، وكتابه الأخير هو في رأيي أحد أجمل مؤلفاته وأكثرها صدقاً وحرارة والتصاقاً بالقلب .
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *