وودي آلن لا يرتاح: فيلم كلّ عام وهو على مشارف الثمانين!


هوفيك حبشيان


وودي آلن بات على حافة الثمانين ولا يزال مخلصاً لإيقاعه المهني: معزوفة سينمائية على أنغامه القديمة، مرةً كل عام. بلا تعب أو ملل، يعيد آلن تدوير كل ما صنع مجده في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، عندما كان لا يزال يطلّ علينا، من خلف الكاميرا وقبالتها، بثرثراته المحببة وطريقته المترددة في سحب الكلام من فمه وإعادته اليه مراراً وتكراراً. اليوم، زمن “آني هول” يبدو بعيداً. وشخصياته، من الفتاة المهووسة بالسينما الى الرجل التمساح الذي يغيّر جلده مع كل حدث جديد، حلت مكانها كائنات أتعبها الوجود، وصمودها في الحياة بات “من قلة الموت”، كما يردد اللبنانيون. لكن آلن الذي أوضح في أكثر من مناسبة انه لا يكرر اللقطة خلال التصوير الا مرة او مرتين حداً اقصى مكتفياً بما يأتي اليه، يجيد غرس سينماه كشجرة مثمرة في تراب الحاضر. حتى حياته الشخصية تحديثٌ بتحديث وتأقلم متواصل مع معطيات جديدة. “ابنتاي المراهقتان تعتبرانني جزءاً من العالم القديم، مع ذلك انا الذي انهض قبلهما واجعلهما تستيقظان للذهاب الى المدرسة”، قال لمجلة “اسكواير” الأميركية. ألا نجد في هذه الجملة مجمل ما هو عليه وودي آلن منذ عقدين من الزمن؟

في المجلة نفسها يكرر آلن ما سبق أن قاله مئات المرات، وهو انه يعمل للمتعة والتسلية، انطلاقاً من نظرته النقدية الوجودية الى الحياة باعتبارها شيئاً باطلاً، والى الانسان باعتباره كائناً زائلاً بلا مستقبل او أمل. وهو من السينمائيين الذين لا ينبشون في الماضي ودفاتره المغبرة، اذ، كما أعلن، لا يشاهد أياً من افلامه القديمة ولا يذكر حتى مضامينها، خشية ان تتحول المشاهدة الى جلد للذات ومحاسبة غير نافعة: لماذا لم ألتقط هذا الكادر من الجانب الآخر؟ ليتني لم اقطع المشهد هنا…، الخ.
في موازاة هذا كله، هناك واقع آخر لا يجري التطرق اليه كثيراً. اذ ثمة وودي آلن آخر خلف وودي آلن الذي نعرفه: فنان أقل سعادة، أكثر أوروبية، أشد قلقاً على المصير الانساني، مما يوحي به الظاهر من أفلامه. صحيح انه يمتعنا بإطلاق نكات كثيرة في افلامه، لكنها في الغالب نكات تقرص وتلسع وتداعب الجلد في الاتجاه المعاكس للوبر.
هذا الشيء عند آلن متأتٍّ من كونه لم يحاول يوماً أن يكون ذلك الحكواتي الفصيح او المهرج التعيس. هناك سوء فهم اسمه وودي آلن. الرجل أكثر قرباً الى انغمار برغمان من قربه الى تشارلي شابلن. وهذا ليس سراً. اذ سبق أن قدم فيلماً (“دواخل”، 1978) يخرج تماماً عن خطه التقليدي، شكلاً ومعالجة وأجواء، ليتحول الى تحية برغمانية واضحة: سيدة متزوجة (ديان كيتون) تعاني من احباط ينعكس على حياتها وحياة زوجها. وعندما يلتقي الزوج في احدى سفراته بامرأة اخرى يغرم بها، فتقع المصيبة ويصبح الطلاق الحلّ الوحيد. كل أفلام آلن في كفّ، وهذا الفيلم في كفّ. “بلو جازمن” ليس راديكالياً الى هذا الحدّ في انتزاع الأبوة المعنوية من المعلم الأسوجي، الا انه اكثر الأفلام في المرحلة الاخيرة تعبيراً عن عدم قدرة آلن على تخطي هذه العقدة. صورة الأب او الرب السينمائي لا يزال آلن يعيش ويعمل في ظلها، وإن بلغ سناً تتيح له ان يكون الشقيق الأصغر لبرغمان. هذه العقدة يؤكدها آلن في اعترافه الآتي: “عندما تناولتُ العشاء مع برغمان في احدى المرات، كان الأمر أشبه بدهّان منازل يلتقي بيكاسو”.
الجديد عند آلن لا ينقطع تماماً عن القديم. وفي الوقت عينه لا يرتبط به كلياً. من هذين الذهاب والاياب، بين ما هو مستجد وما سبق أن لاكه لسان المعلم النيويوركي في عشرات الأفلام، يتولّد منتوج بصري غالباً ما يكون مسلياً، فاتحاً للشهية ويضمن الحدّ الأدنى من الغبطة السينمائية. مهما انقضّت السوداوية عليه، يبقى آلن منفتحاً على الأمل ومطمئناً إلى مصير الجنس البشري.
“رجل غير عقلاني” المعروض في مهرجان كانّ الأخير (خارج المسابقة بناءً على رغبة آلن في عدم المنافسة)، مثلٌ آخر على حرفة آلن وصنعته. يحملنا آلن الى مغامرة سينمائية برفقة قامة تمثيلية كبيرة تهمّ بالصعود الى قافلته. انه يواكين فينيكس كما لم نره من قبل: مهمومٌ ينبعث من اللامكان. آلن كان دائماً في حاجة الى مَن ينطق بإسمه قبالة الكاميرا، أن ينقل بعضاً من وساوسه ويقول ما كان عصياً عليه أن يقوله بنفسه، أي بتلك الطريقة المتلعثمة في البوح ومقارعة الحجج.
ما يقترحه مخرج “آني هول” هنا، كوميديا تذوب في قِدر الشرط الانساني. يموضع الحوادث في احدى المناطق الأميركية حيث لا يحصل الكثير. يستعين النصّ بشخصيات غرائبية، معجونة بعبثية وودي آلنية بالغة، نراها تعبر الشاشة ببعض الخفة وتدلي بدلوها في شؤون الحياة والفلسفة. في مقدمها استاذ فلسفة (فينيكس)، نموذج للشخص المصاب بكآبة الضواحي، مفلس فكرياً، على حافة الهاوية عاطفياً، الخ. بين حين وآخر، يرمي أمام الطلبة بضع نظريات مستعجلة غير مترابطة. بيد ان الاستاذ العجائبي هذا، لن يبقى حبيس جدران الجامعة حيث يحلو له التذكير بين حينٍ وحين أن “الجحيم هي الآخرون”، بل سيصبح بطلاً وهمياً لبدعة تزجّ به في معضلة أخلاقية.
“رجل غير عقلاني”، عودة وودي آلن الى سينما الجريمة التي بلغت ذروتها مع “ماتش بوينت” (2005). للجريمة دائماً وقعٌ أشد تأثيراً عنده، ذلك ان سينيكية آلن الذي يسخر من نفسه والآخرين، لا تكتمل الا عندما تبلغ مراحلها الأخيرة: إلغاء الجسد أو تصفيته. انه المقابل المادي/ الوحشي لكلّ ما صنع أفكاره، لكلّ تلك الدعابات الطفيفة التي تُطلَق كسهام ولا تقع جرّاءها أيّ ضحيّة. اذا كان هيتشكوك صوّر الجريمة كممارسة حبّ، وصوّر ممارسة الحبّ كجريمة (وفق التعبير الشهير لتروفو)، فآلن يصوّرها لحظة إنفصال عن العقل، نبلغ معها نقطة اللاعودة. انها تجسيد لرؤية فلسفية تجرّ الشخوص الى حيث لا يتوقعه القدر.
في عدد من أفلامه، مزج آلن الكوميديا والرومنطيقية كما هي الحال في “ميلندا وميلندا”. في المدينة العزيزة على قلبه (مانهاتن)، يزرع آلن حوادث فيلمه حيث سلسلة أزمات تؤدي الى مواقف مضحكة ومبكية في الوقت نفسه. كالعادة، يتطرق الى مواضيع محببة عنده مثل الحب والخيانة الزوجية وفشل التواصل.
خلال عشاء في احد المطاعم، يسأل ساي الساهرين معه: هل الحياة مضحكة أم مأسوية؟ فتُسرد قصة امرأة اسمها ميلندا بروايتين مختلفتين، الاولى مأسوية، نرى فيها ميلندا امرأة مضطربة ضجرت من زوجها وتخلّت عنه من اجل مصوّر. فيأخذ الزوج الاولاد وتصاب الزوجة بالاحباط والكآبة. اما في الرواية المضحكة، فميلندا من دون أولاد وجارة ضيوف العشاء. ويبرز التضاد بين القصتين ومصير المرأة المغاير في الحالين.
يستكشف آلن بعض التيمات التي حفلت بها أعماله السابقة، مثل الصراع الشخصي مع المبادئ والهوية والحميمية والغيرة وأوهام الرومنطيقية. يقول: “انها مواضيع تتكرر في افلامي التي تعتبر غالباً كوميدية او دراماتيكية. لكنني ارى انها تميل اكثر الى الكوميدية. فكّرت في أنه يمكن الحصول على قصة والتصرف بها في طريقتين. وردت في ذهني فكرة هذا الفيلم تلقائياً من دون ان أبحث عنها. أملك الكثير من الافكار التي تسمح لي بتأليف القصص”. يعتبر آلن ان اكثر المظاهر الشائقة ان قصتَي ميلندا، الكوميدية والمأسوية، ليستا حقيقيتين. انهما من صنع خيال ساي وماكس. فالشخص الاول يجعلها مضحكة ويحولها الثاني مأساة. احياناً تتداخل القصتان واحياناً اخرى لا.
استغرقت كتابة “ميلندا وميلندا” نحواً من شهر. قلائل هم الاشخاص الذين يقرأون سيناريو آلن كاملاً. فبعد اعادة النظر فيه وكتابته من جديد، يريه لمن يثق بهم من معاونيه. وكان رد فعل من اطّلعوا عليه ايجابية جداً. تقول المنتجة ارونسون: “انها فكرة رائعة. فمن وجهة نظر شخص ما، قد تكون المواقف مضحكة. اما الآخر فقد يعتبرها محزنة. وودي بارع بتمييزه للطريقتين اللتين يفكّر فيهما الناس”.
انطلق وودي آلن من أعمال متواضعة (“ليلي النمرة” أو “باباناس”) تمثيلاً واخراجاً، قبل أن يصير رمزاً من رموز السينما المستقلة في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، ثم عاد الى مرحلة متوسطة الجودة، وكان يولي اهتماماً على طول الخط للكمية على الطريقة الشابرولية الفذة التي تميل الى تصوير الكثير، لعل في هذا التمرين على التصوير المتواصل، بعض الاعمال الكبيرة التي تتباهى بها فيلموغرافيته. واذا كنا عثرنا في “ماتش بوينت” على العين المراقبة والمتفهمة (لكلٍّ ظروفه) التي لطالما ثقّفنا بها آلن، فالانجذاب الى عالمه لا يحصل في بعض من أفلامه الأخيرة، علماً انها امتدادات لأفلام سابقة، وتطوّر الذائقة نفسها، كاشفة عن ارتياح معيّن في ان يراوح مكانه، لكن العلة ان الزمن يمرّ بسرعة، فأن يبقى المرء في مكانه فهذا يُعدّ تراجعاً.
في “منتصف الليل في باريس”، حيث ينظر مخرج “مانهاتن” الى عاصمة الأنوار، استمرار لنهج جديد لدى آلن، تجسد في انتقاله منذ فترة الى سينما تعبر الى أمكنة أخرى غير تلك التي أثار فيها أجمل قهقهاتنا. فبعد لندن وبرشلونة، صنع فيلماً حيث الشخصية الرئيسية ليست فتاة مهووسة بالسينما أو رجلاً تمساحاً يغيّر جلده مع كل حدث جديد، بل مدينة باريس التي أحبّها مذ قصدها في العام 1964.
النساء، ملهمات آلن، لسن قليلات. آخرهنّ: سكارليت جوهانسون التي ابدعت في “ماتش بوينت” ولم تكن في “سكوب” سوى وظيفيّة في ما تلبسه من دور، اذ تعاملت معه بقفازات أنيقة. ثمة تعامل سليم مع مبدأ التوقيت في أفلام صاحب “زيليغ”، “هيومر” لا تنكسر عزيمته، ووعي كبير
ازاء معادلة الزمن – المساحة. رائحة ما تتسرب من فيلم الى آخر، لكن أحياناً تتبخر بسرعة فائقة، لأن آلن يختار
الانتقال الى المقلب الآخر، وخصوصاً عندما يقرر القفز من الرصانة الفكرية الى الكوميديا البوليسية التي يجتازها شيء من الخرافة (كما في “سكوب”)، ثم الى نوع من فيلم لا يحلو لآلن اخراجه فحسب بل مشاهدته ايضاً. طبعاً، لن تستطيع أفلام آلن الأخيرة شيئاً تحت وطأة المقارنات مع أفلام آلن الآخرى، لكن الأهم في هذا كله هو الشعور بأن الأمر ليس الا استراحة محارب وأن الآتي أعظم. ألا يحقّ له أن يستريح قليلاً؟
النهار

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *