‘الغازي والإنكا’ معرض تتواجه فيه شخصيتان لا تجمعهما غير القسوة


أبو بكر العيادي

معرض طريف يقيمه حاليا متحف رصيف برانلي للفنون الأولى بباريس، يضع وجها لوجه شخصيتين لا تجمعهما غير القسوة، في لحظة فارقة من تاريخ جنوب القارة الأميركية. الأول لقيط أمّي هو الكونكيستادور فرانثيسكو بيثارو، والثاني هو ملك الإنكا أتاهوالبا، ليشكل الصراع الدموي بينهما صداما بين عالمين وحضارتين.

ليس من السهل الجزم بصحة الحقائق التاريخية عن تلك الحقبة التي تلت اكتشاف كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية عام 1492، إذ المصادر غير متوازنة. فمن جهة شعب لا يعرف الكتابة رغم أنه طوّر منظومة دقيقة تعتمد على أسلاك معقودة يدوّن بواسطتها المعطيات، تقابلها يوميات باللغة القشتالية تبالغ في سرد ما تسميه ملحمة الغزاة (الكونكيستادورس).
ومن ثَمّ حاول منظمو معرض “الغازي والإنكا” الباريسي أن يقدموا قراءة متقاطعة للوقائع من خلال حوالي مئة وعشرين قطعة بين رسوم وبورتريهات ولوحات وقطع أثرية، لخلق نوع من الحوار بين خصمي الأمس والحضارتين اللتين يمثلانها.
في عشرينات القرن السادس عشر، كانت إمبراطورية كارلوس الخامس الأسبانية متعطشة للغزو والغنائم، تواصل استكشاف المحيط الهادي وساحل ما صار يعرف بأميركا الجنوبية الذي كانت بدأته في العشرية السابقة.
في الوقت نفسه، كانت إمبراطورية الإنكا في كوزكو بالبيرو قد بسطت نفوذها في عهد هوانا كاباك على مناطق شاسعة تمتد إلى ساحل كولومبيا والإكوادور وبوليفيا شمالا، وجزء من الأرجنتين شرقا وشمالي شيلي جنوبا. فلما توفي، خلفه ابنه أتاهوالبا بعد صراع مع أخيه هواسكار أدّى إلى نشوب حرب أهلية دامت أربع سنوات.
في تلك الفترة، أي عام 1524، قدم فرنثيسكو بيثارو (1478 /1541) إلى بيرو على رأس مئة وثمانين مقاتلا في ما تذكر المصادر الأسبانية، وكان قد سبق له المشاركة في حملة قادها فاسكو نونييث دي بالبوا (1475 /1518) أول من اكتشف المحيط الهادي، ونما إلى علمه نبأ وجود إمبراطورية واسعة الثراء هناك.
واستطاع بيثارو أن يهزم أتاهوالبا الذي كان على رأس جيش يُعَدّ بعشرات الآلاف. هزيمة فسرها المؤرخون الأسبان بالتفوق النوعي عسكريا، حيث كانت لهم أسلحة نارية وخيول، فيما لم يكن لخصومهم غير النبال والرماح والهراوات، وكذلك بانقسام الإنكا بعد الحرب الأهلية التي خاضوها في ما بينهم، وخصوصا بحنكة الأسبان في استمالة بعض القبائل وإيهامها بأنهم رُسُل الربّ، فجندوا رجالها ضدّ إخوانهم.
لم يكتف بيثارو بهزم أتاهوالبا، بل كان يريد القبض عليه على غرار ما فعل هرنان كورتيس (1485 /1547) بالمكسيكي موكتيزوما، فدعاه إلى لقاء بمدينة كاخامركا. هناك زعم أن ملك الإنكا رمى بالكتاب المقدس أرضا فأسره وبطش برجاله.
عرض أتاهوالبا على بيثارو غرفة ملآنة بالذهب يفتدي بها نفسه، أي ما يعادل ستة أطنان من الذهب وضعفها من الفضة، استلزم جمعها ثمانية أشهر، كان أتاهوالبا خلالها قد أصدر من سجنه أمرا بقتل أخيه هواسكار تحسبا لانضمامه إلى صفوف الأسبان.
وما كاد بيثارو يحصل على الغنيمة حتى حكم على أسيره بالإعدام بتهمة قتل أخيه، ونفذ فيه الحكم في اليوم نفسه من عام 1432. وظلت قبائل الإنكا من بعده تناوش الأسبان حتى سحقها دييغو دي ألماغرو (1475 /1538)، ثم حدث نزاع بينه وبين بيثارو حول الالتزام بحدود سلطتهما القضائية، هُزم إثره دي ألماغرو، وأعدم، لكن أتباعه أخذوا بثأره، واغتالوا بيثارو عام 1541.
عبر قطع حضارة الإنكا من الطين المحمّى، والأنسجة الفاخرة، ومشخصات الذهب والفضة، وخرائط قديمة ومرويات عن الغزوة، وأزياء عسكرية وكراسيّ وتخوت، يحاول الزائر أن يفهم كيف استطاعت حفنة من المقاتلين الأسبان أن تستولي على إمبراطورية شاسعة تضمّ ما بين عشرة ملايين واثني عشر مليون نسمة يخضعون لإدارة محكمة.
يضع المعرض رجلين وجها لوجه، ومن سيرتهما يتبدّى تقاطع حضارتين في لحظة فارقة. تبدأ الزيارة بالظرف التاريخي والسياسي الذي شهد اكتشاف الأسبان للعالم الجديد. ثم ينتقل إلى إمبراطورية الإنكا وطبيعة الحكم فيها والصراع بين الأميرين أتاهوالبا وهواسكار من أجل السلطة.
تليها الحلقة التي شهدت تقاطع مصيري الغازي الأسباني وملك الإنكا، وتحوي رسوما ولوحات ترصد قدوم أتاهوالبا إلى كاخامركا وسط حشد من أتباعه وجنده، ووقوعه في الأسر، والفدية التي دفعها أنصاره لبيثارو وأخيرا إعدامه، وهذه الحلقة تختلف المصادر الأسبانية والأميرندية (الهند أميركية) في نقل وقائعها وتأويلها.
تليها حلقة أخرى عن مدينة كوزكو، ومصرع بيثارو، واستيلاء الإنكا على جثة قائدهم والعودة بها إلى مسقط رأسه، حيث حنطوه وتستروا على مقامه لأسباب دينية وثقافية. وتختتم الزيارة بما بعد الغزوة، وسعي شعوب المنطقة إلى خلق مجتمع هجين يلتقي فيه أحفاد السكان الأصليين وأحفاد الغزاة.
ومهما كان اختلاف مؤرخي تلك الفترة، فالثابت الذي يتفقون عليه أن الغزو الأسباني رافقته أعمال نهب وسلب وتقتيل فظيع. وأن الاستعمار الذي تولد عنه خلّف كارثة سكانية كبرى، فقد كان تعداد شعوب الإنكا قبل الغزو ما يقارب اثني عشر مليون نسمة، لم يبق منها بعد قرن سوى ستمئة ألف نسمة، بسبب ضعف مناعتها من الأمراض التي حملها الأسبان معهم، وكذلك إخضاعها للأعمال الشاقة، ومعاملتها معاملة لاإنسانية..
العرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *