*نزار سرطاوي
(ثقافات)
دعاني صديقي الشاعر والباحث المغربي سي محمد بلبال إلى قراءة مقالة له نشرها على الفيسبوك بعنوان ” من يملك ناصية الشعر؟”* وإلى الإدلاء بدلوي فيما ذهب إليه في مقالته الرصينة. وقد آثرت أن أرد عليه بمقالة أتناول فيها بعضاً مما طرحه من أفكار. ويعود هذا إلى ما أكنّه لصديقي سي محمد من الاحترام، وإلى أنني وإن كنت اتفق معه في الكثير من النقاط التي طرحها، أختلف معه في جوانب أخرى لا بد لي من شرحها.
مقالة سي محمد تركز على قضيتين هامتين: الأولى تتعلق بالمشهد الشعري المغربي، والثانية تتناول موضوع “ما بعد بعد الحداثة” في الشعر.
أما فيما يتعلق بالمشهد الشعري المغربي، فأظن أن من يزعم أن عدد الشعراء المغاربة لايتجاوز عدد أصابع اليدين، كما يشير صديقي، يجافي الحقيقة مجافاة تقترب من الهرطقة الأدبية. حين زرت تيفلت في أواسط نيسان / إبريل من عام 2012 للمشاركة في ملتقى تيفلت للشعر العربي التقيت بعدد كبير من المبدعين من أهل تيفلت نفسها. ربما لم تحظَ تيفلت باهتمام كافٍ على المستوى الرسمي. لكنها مع ذلك تشهد نهضة أدبية وفكرية وثقافية كبيرة بفضل جهود مبدعيها، أمازيغَ وعرباً، الذين استطاعوا بإمكانياتهم المادية المتواضعة أن يضعوا تيفلت على خريطة الثقافة العربية. وهذه شهادة من غير أهلها – أي من غير أهل تيفلت. فإذا كانت تيفلت وحدها تضم هذا العدد من الأدباء والشعراء والنقاد، وتعِد بالمزيد من خلال جيل الشباب الذين لم يبلغ البعض منهم بعدُ سنّ الحلم، فماذا نقول في المغرب بأرجائه الواسعة ومدنه وبلداته وأريافه التي تغص بالشعراء والأدباء من كلا الجنسين؟
أستطيع من هنا أيضاً أن أعَرّجّ على الشاعرات والشعراء الأمازيغ، وقد أتيح لي أن أتواصل مع عدد منهم من سكان تيفلت وسواها. وهؤلاء يكتبون بالعربية أو الأمازيغية أو كلتا اللغتين. ولا مراء في أنهم يشكلون عنصراً هاماً في المكونات الثقافية المغربية كمّاَ وكيفاً. فإنتاجهم الأدبي يحتل مساحة شاسعة في الثقافة المغربية، مشكّاً عنصر إثراءٍ للفسيفساء الثقافية، له دور فاعل في المشهد الثقافي في طول البلاد وعرضها.
أما الموضوع الآخر فهو مسألة الحداثة (وما بعدَ الحداثة، وما بعدَ بعدِ الحداثة – أي ما يطلق عليه البعض مُسمّى النص المشاعي ولعله هو نفسه الذي يسمّيه آخرون النص المفتوح.) والحقيقة أن الحداثة بمفهومها الأشمل مصطلح يشمل الحداثة وما بعد الحداثة والاتجاهات التجريبية. لقد اتخذ الحدث الأدبي الهام الذي شهدَتْه تيفلت في العام الماضي من الحداثة عنواناً وشعاراً. هذا الشعار وهذا العنوان يحملان مدلولات هامة. فهما يؤكدان على الحضور القوي للحداثة، ليس في المغرب وحسب، بل في العالم العربي من الماء إلى الماء. إنه حضور يستحق منا اهتماماً كبيراً لا يكفيه حدثٌ ثقافي أو اثنان أو عشرة. فهو تيار أدبي له أبعاد ثقافية وفكرية وتاريخية وسياسية وأخلاقية لا يتسع المجال في هذه العجالة لبحثها.
لكنني أود أن أذكّر بأننا لسنا رواد الحداثة في العالم. الحداثة بدأت في الولايات المتحدة قبل ما يقرب من قرن من الزمان، وتحديداً بعد الحرب العالمية الأولى التي وضعت أوزارها في عام 1918، وإن كانت جذورها تمتد إلى أواخر القرن التاسع عشر. وأذكر من روادها شعراءَ كباراً مثل ماريان مور، وليام كارلوس وليامز، روبرت فروست، والاس ستيفنز، ثيودور ريتكي، إي إي كامنغز، وهيلدا دوليتل. ورغم أن هؤلاء كتبوا الكثير من قصائدهم مستخدمين أساليبَ وأشكالاً شعرية تقليدية، إلا أنهم أيضاً فتحوا الأبواب للتجريب متحدّين الثقافة التقليدية الراسخة. فمنهم من استخدم اللغة الشعبية البسيطة، ومنهم من هجر الحروف الكبيرة التي تبدأ بها الجمل والأسماء، ومنهم من نحت كلمات جديدة. وعلاوة على التجريب المستمر، فقد كان هناك نكوص عن الواقعية. فاكتسب الفن نوعاً من القدسية، وساد الاتجاه إلى رؤية العالم من خلال المشاعر الداخلية أو الحالة الذهنية للشاعر، وطَرَق الشعراء تيمات وضعوا من خلالها علامات استفهام حول الرؤى التقليدية، فمالوا إلى استعمال الأساطير وقوى اللاوعي في قصائدهم. كذلك اتجه الحداثيون إلى الفردية، فتغلبت الرؤية الذاتية للشاعر على سلطة الجماعة، وساد الشعور بالغربة تجاه الدين والطبيعة والاقتصاد والعلم. وعلاوة على ذلك فإن الحداثيين استندوا إلى قوة العقل لا العاطفة. فاتسمت أعمالهم بعدم الاكتمال وبالنهايات المفتوحة وعزفوا عن السعي إلى الكمال من حيث الشكل، كما اتجهوا إلى طرح الأسئلة بدلاً من الإجابة عنها.
الحداثة إذن ليست اختراعاً عربياً. نحن أخذناها عن الغرب. وهذا لا يضيرنا. فالثفافة تراث إنساني نتأثر به ونأخذ عنه ونضيف إليه. والأوروبيون قبل مئات السنين تأثروا بالعرب الأندلسين وأخذوا عنهم ما أخذوا، ليس في مجال الأدب والثقافة وحسب، بل أيضاً في مجالات الفكر والمعرفة والعلوم.
أتفق مع سي محمد بلبال في العديد من الأمور التي طرحها. فنحن معنيون باستحداث أنماط وأشكال ورؤى جديدة. ونحن أيضاً معنيون بالتجريب، الذي يفتح آفاقاً شعرية جديدة ترقى بالقصيدة شكلاً ومضموناً. كان لافتاً وصف سي محمد لنفسه بأنه ليس “من دعاة الإقصاء.” وهذا يحسب له. وكان لافتاً كذلك تأكيده على موقفه المدافع عن رفيقاته ورفاقه من رائدات ورواد “النص الجديد.” وهذا من حقه. لكن ألا ينطوي الشعار الذي يرفعه صديقي سي محمد بلاءاته الثلاث ” لا للنمطية، لا للمحافظين لا لإعادة انتاج السائد والقديم” على شيء من الإقصاء؟
أثناء اعتلائي للمنصة في تيفلت لأقرأ قصائدي، قلت: “ما لي وللحداثة!” وكانت تلك دعابة مني، لكنني أيضاً كنت أريد أن أؤكد على حرية الشاعر في اختيار النمط الذي يلائمه، وعلى عدم خضوعه لأي ضغط فكري أو اجتماعي. إذ أنني لا أريد أن أخرج من قفص لأدخل في قفص آخر. أحد الحضور من أدباء تيفلت قال لي هامساً: “تُبّاً للحداثة!” وكأنما أراد ان يقول لي إنه يؤيدني. فأجبته أنني لم أقل ذلك. فلست عدواً للحداثة كما خُيّل إليه. بل أنا من أصدقاء الحداثة. وما زلت أذكر بكل اعتزاز وصف الناقد محمد رمصيص لي بالودود. نعم أنا من أصدقاء الحداثة، لكنني لست عدواً لأي نمط آخر.
أذكر أيضاً أن أحد النقاد قال في جلسة حوارية في إطار ملتقى تيفلت الشعري “نحن” – ويقصد الحداثيين – “نريد أن نقلب الطاولة” على التقليديين. كنت أود أن أقول له بكل مودة: يا صديقي العزيز، ألا يمكننا أن ننظر إلى الشعر نظرتنا إلى الزهور؟ الشعراء يحملون إلى الدنيا باقات من الزهور. فإذا كانت ثلّة من الشعراء يجلسون إلى طاولة وقد وضعوا عليها باقاتهم ، فلماذا نقلب الطاولة ونرمي بزهورهم، وربما نشتبك معهم؟ لم لا نكون ودودين، فنحمل باقاتنا بألوانها الرائعة وشذاها الفوّاح لتأخذ مكانها فوق الطاولة إلى جانب الباقات الأخلرى؟ الزهور الأكثر جمالاً والأقوى احتمالاً هي التي ستظل تُزيّن الطاولة وتتيح لنا أن نملأ أنوفنا بعبقها. ولنترك للزمن أن يفعل فعله. فأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
ما أود أن أقوله هو أن الاتجاهات الأدبية المختلفة يمكن أن تتعايش معاً، وكلّ في فلكٍ يسبحون.. السياسيون والأيديولوجيون يشعلون الحرائق من حولنا ولا يترددون في أن يجعلوا الشعوب حطباً لنيران خلافاتهم. فهل نحن بحاجة إلى إعلان حرب أخرى يشعل فتيلَها اختلاف وجهات النظر حول الحداثة وما بعدها وما بعد بعدِها وما قد يستجد بعدَ بعدِ البعد؟ لسنا بحاجة إلى أن نقلب الطاولة على أحد، فلا يمكن لأحد أن يدعي امتلاك الحقيقة. فما يبدو لنا صحيحاً قد يبدو لسوانا غير ذلك. وقد يأتي يوم نضطر فيه إلى الانتقال من موقع الهجوم إلى الدفاع، لأن هناك من يريد أن يقلب الطاولة علينا نحن أيضاً، وكأنّ قدرنا ألّا ننعم أبداً بالحرية والديموقراطة والعيش المشترك.
________
* شاعر ومترجم من الأردن.