فيلم “ماكبث” (2015)*





خاص ( ثقافات )

“الشر خير والخير شر…..”!
“كن دموياً وجريئاً وحازماً”
بهذه الكلمات المبهمة الغامضة تعلق الساحرات الثلاث على خروج ماكبث من معركته التي استهل بها هذا الفيلم الملحمي منتصراً!
مخلصاً تماماً للدراما الشكسبيرية الخالدة وملتزماً بنكهة سينمائية فريدة، يقوم المخرج (جوستين كورزيل) بصنع هذه الملحمة التاريخية الشيقة، مستغلاً زخم النجومية الطاغي لمايكل فاسبندر، الذي قدم أداءً مذهلاً بكل المعايير… إنها الإعادة السينمائية الجديدة لمسرحية شكسبير الشهيرة، تتحدث عن مقاتل جسور وقائد ملهم يتم إحباطه بقمع شجاعته واندفاعه، ولكنه يستند للرغبة الكاسحة والطموح الجشع للقيام بالدور الذي رسمه له القدر… إنه عرض سينمائي مذهل وممتع للحقائق الدرامية التاريخية في زمن الحروب والفتوحات، متناولاً واحداً من أكثر الشخصيات “الأدبية” شهرةً وجدلاً، متحدثاً عن الشغف والطموح والخيبة والارتياب بزمن الحروب التي مزقت ذات يوم “اسكوتلندا”!
يسحرك كمشاهد الاقتباس السينمائي “الدرامي-الشعري- الملحمي” للمسرحية الاسكتلندية الشهيرة، فيلم دموي وشجاع يحتوي على كم كبير من المشاعر والدماء والبرود، حيث زوجة جميلة طموحة وجشعة مندفعة، لا يوجد من هو أحسن من فاسبندر كجنرال قاتل مندفع مع النجمة الفرنسية “ماريون كوتيلارد” بدور الزوجة المهووسة بالسلطة والحكم، لا يوجد قط من يستطيع تقديم هذه الملحمة أفضل منهما!
لم يضحِّ المخرج الفذ بالغموض “الشكسبيري” ليحقق شريطاً شعبياً، وقد شاهدت نصف الحضور القليل يغادر القاعة، وانغمس مصمم الصوت والموسيقى التصويرية بأدق التفاصيل حتى سمعنا “صوت السيف الإسفنجي” وهو يمزق الأمعاء، وهو ينفذ للأعناق ويقطع الرؤوس فتنزف الدماء غزيرة… تكامل هذا الأداء الصوتي المثير مع الموسيقى التصويرية المعبرة، ومع الرغبة البصرية الجامحة للاستحواذ على الأداء والحوار، مما أنتج فيلماً متكاملاً صعب الاختراق: فماكبث “فاسبندر” بطل قدري استهلكته القوة والشعور الملح بالذنب لاغتياله الإجرامي للملك بتحريض زوجته، وهو مرعب في آن ومثير للشفقة، حيث تم تقديم دراسة سيكولوجية عميقة للجريمة والانهيار الذاتي التدريجي، تفوق ربما ما قدمه “دوستوفسكي” بروايته الخالدة “الجريمة والعقاب”، كما أبدعت (كوتيلارد) بدور المحرضة التي ولدت العزم الكاسح لدى ماكبث، ثم انساقت معه بحالة “التفكك الداخلي”…. 
المعالجة السينمائية للرواية كانت فريدة من حيث التأرجح بين النزعة لخلق الحياة والمجد وبين الرغبة الكاسحة بتدميرها… لا أؤيد هنا رأي بعض النقاد “المتسرعين” للفيلم بأنه أعطى الأولوية للأسلوب على حساب المضمون، بل أعتقد أنه حافظ بمهارة على توازن دقيق متصاعد وحابس للأنفاس، مراعياً عناصر “الطموح والخوف والريبة والشعور بالذنب امتداداً للجنون التدميري الماحق”، وقد اقتحم العصور المظلمة بجرأة نادرة، مصوراً عمق المأساة التراجيدية في “فرادة” درامية “مخيفة وممتعة”!
كذلك لا أوافق التبسيط الساذج للملحمة الذي كتبه أحد الروائيين: “… القائد ماكبث الذي اغتال حاكمه ليجلس مكانه، يشاهده الحارس فيقتله خوفاً من تفشي السر، ثم يشاهده ثلاثة حراس آخرون وهو يقتل الحارس، فيقتلهم خوفاً من انكشاف أمره، وبين الخرائب المتراكمة في الطرائق، فهو يقتل بجنون كل من يلتفت إليه خوفاً من أن يكون قد شاهد القتل، ثم يصل لنتيجة “مضللة” وهو ينهي الأقصوصة: “في الليل سقط ماكبث قتيلاً وهومضرج بدمائه”!
يقود ماكبث القوات الملكية بالمعركة الأخيرة، محققاً الظفر للملك “دونكان”، ويشعر بالغيرة والحسد من تنصيب الملك لابنه “مالكولم” كأمير وولي عهد، وتحرضه زوجته الطموحة لكي يقدم على ما أضمر في سره، فيقدم على قتل الملك بمقصورته بعدة طعنات نجلاء مخضباً يديه بدمائه، ثم نرى أن ابن الملك قد شاهده بعد مقتل الملك، ولأسباب نجهلها نراه يتركه ليهرب ممتطياً حصانه، ثم يذهب “ماكبث” لزوجته ويعطيها الخنجر، فتلتقيه لاحقاً بالكنيسة لغسل أيديهما الملوثة بالدماء، وكان بالماء “سحر” قادر على غسل ذنبهما الكبير، ثم يقدم “ماكبث” على ذبح الخدم الثلاثة النائمين حتى لا ينكشف أمره، ويصيح بتبجح: “أنا ملك اسكتلندا”!
ولكن تداعيات مقتل الملك تستولي على ذهنه وأفعاله لاحقاً، فيعود يشكو من عبثية “قتل الملك دونكان” لأن الملك سيذهب لبانكو وابنه حسب النبوءة… هكذا يدعو “بانكو وابنه الصبي” لحفل العشاء الفخم المقرر لتنصيبه ملكاً، فيعده بانكو بالحضور بعد أن يقوم بجولة مهمة مع ابنه الصبي، فيرسل مجموعة فرسان ثلاثة لاغتيالهما، فينجحون ويقطعون رأسه، ولكن ابنه الصبي يهرب للغابة ناجياً بنفسه، وتعلمه المجموعة بالاغتيال ونبأ هروب الابن… فنراه بلقطات معبرة يرى “مهلوسا” بانكو وكأنه موجود برفقة ضيوف الحفل الكبير، ونراه يذهب متحدثاً “للشبح” الذي لا يراه أحد سواه، وتحاول الليدي ماكبث تهدئة الجمع المذهولين بحجة “أن زوجها ليس على ما يرام”، ولكن ماكبث” يستمر بهذيانه، مما يستدعي مغادرة “ماكدوف” القاتل وزوجته للحفل بالرغم من إصرار الملك على بقائهما، ويتوتر الجو فتأمر”الليدي ماكبث” جميع الضيوف بالمغادرة، وتأخذ ماكبث لغرفتها محاولة تهدئته من مخاوفه وهلوساته، ثم يهرب خلسة للغابة ليلاً ليتحدث ويستشير ساحرات الغابة الثلاث (مع ابنتهم)، لكنهن لا ينجحن بتهدئة مخاوفه المستفحلة، ثم يعطي الأوامر الصارمة لعصابته بأسر عائلة ماكدوف وأطفاله وخدمه، ويقوم بحرقهم بعد تعليقهم على نواصٍ خشبية أمام جمع مؤيديه… فيشتعل الحقد بقلب ماكدوف بعد علمه بالمذبحة متوعداً بانتقام شديد، ويتعاون مع ابن الملك الهارب لتشكيل جيش عرمرم مكون من عشرة آلاف مقاتل لغزو اسكتلندا… تعود الليدي ماكبث لقريتها، خائبة ومتروكة وحزينة، ثم تتجه للكنيسة للاعتراف بخطاياها ومشاركتها بالجريمة، ثم ترى شبح ابنها الميت، وتذهب عبر الغابة لترى الساحرات الثلاث، وتسري شائعة في القلعة بأن ماكبث قد جن، مما يفسر هوجه وسلوكياته المتسلطة وغضبه الهيستيري الشديد، ثم يخبر بأن زوجته قد ماتت، فيحمل جثتها ويسير بلا هدى محاولاً احتضانها “واقفة” في لقطة “تراجيدية” معبرة، ثم يخبره الحرس بأن مالكولم يقود جيشاً ضده، كما يحرق “ماكدون” غابة بيرنام، وبينما تتجه “الأدخنة والرماد” باتجاه القلعة الملكية، وتتحقق النبوءة، يغادر “ماكبث” القلعة لمواجهة جحافل الجيش المهاجم، ويدخل في نزال مع “ماكدوف”، واثقاً من انتصاره الكاسح عملاً بالنبوءة التي تقول: “إن لا رجل مولود من امرأة سيستطيع قتله”، ولكن “ماكدوف” يفاجئه بالقول بأنه قد “انتزع من رحم أمه قبل ولادته”، ثم يستغل اندهاش وتشتت ماكبث ليطعنه بأحشائه طعنة قاتلة، ولكن ماكبث كعادته يرفض الاعتراف بالهزيمة والموت السريع، ثم يعيد ماكدوف الكرة فيطعنه عدة طعنات قاتلة، ليموت “ماكبث” واقفاً في ساحة المعركة، ليصبح مالكولم ملكاً شرعياً لاسكتلندا… ثم نرى الساحرات الثلاث وقد شهدن المعركة الفاصلة ومقتل ماكبث وهن يغادرن والحيرة تملأ وجوههن ليختفين عبر الضباب…
في المشهد الأخير المعبر، نرى “مالكولم” وهو يغادر قاعة العرش بينما يقوم “ابن بانكو” الصبي الشجاع بأخذ سيف “ماكبث” مغادراً مسرح المعركة ومختفياً عبر الدخان…
يحفل هذا الفيلم الرائع بالاقتباسات “الشكسبيرية” البليغة والمعبرة والتي تصدر بمعظمها عن ماكبث كما عن الشخصيات الأخرى كزوجته والساحرات وخصومه، وقد لاحظت أنها تنسجم بالسياق مع قوة الشخصيات والمواقف وتراجيدية الأحداث وفق التصاعد الزمني: أنا توغلت بالدماء… عقلي مليء بالعقارب… إذا كنا سنفشل فلن نفشل! هذه اللوحة تحديداً منحوتة من مخاوفك… ما الحياة إلا ظل متحرك… هناك الشرف والحب والأصدقاء، ولكن أيضاً “الموت واللعنات”! لا يوجد لدي كلمات، وصوتي يكمن داخل سيفي… ما أنجز قد أنجز… أجرؤ على القيام بكل ما هو بطولي، ومن يجرؤ على بذل المزيد “لا أحد”! يقولون بأن الدم سيولد الدماء… حرقنا الثعبان ولم نقتله… والتعبير البليغ: “النجوم تخفي نيرانك، فلا تدع الضوء يرى رغباتي العميقة المظلمة”… ثم قول ماكبث الأخير قبل مقتله: “سأقاتل بعظامي وحتى يخترق لحمي”، وبالفعل فهذا ما حدث تماماً بمنازلته المثيرة الأخيرة! 
هذه الدراما التراجيدية هي إنتاج “بريطاني-فرنسي-أميركي”، وقد عرضت للمنافسة على السعفة الذهبية لمهرجان كان للعام 2015، وبالإضافة للدورين الرئيسيين، قام كل من “بادي كونسيداين وسين هاريس وجاك رينور واليزابيت ديبيكي ودافيد ثيوبس ورون أندرسون بأدوار كل من “باركو، ماكدوف، مالكولم، الليدي ماكدوف، والملك دونكان، وروسي بأداء متناغم بديع ومتكامل.
*بمناسبة احتفالية “شكسبير في السينما”، بذكرى مرور أربعة قرون على وفاة وليم شكسبير.

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *