بورخيس رويداً، رويداً، ينمو العمى


*ترجمه عن الإسبانية: د. محمد محمود مصطفى


الحلم
عندما يضيع منا الزمن،
عندما تدق الساعات معلنة منتصف الليل
سوف أرحل إلى ما هو أبعد
مما مضى إليه عوليس،
إلى أرض الأحلام،
إلى ما هو أبعد من ذاكرة البشر.
ألتقط بقايا من عالم يقع تحت الماء،
أشياء تستعصي على فهمي:
أعشاب من حديقة نباتات بدائية،
حيوانات من كل صنف وصنف،
حوارات مع الموتى،
وجوه كانت دائماً محض أقنعة،
كلمات من كل اللغات العتيقة،
وأحياناً قصص مرعبة
لم تتناه إلى مسامعي من قبل.
سوف أكون الجميع أو لا أحد.
سوف أكون الآخر الذي هو أنا
دون أن أدري،
الآخر الذي عثر على الحلم
في استيقاظي.
أراه يتأمل الحلم ملياً.
رجل كفيف
لا أعرف أي وجه ينظر إلي
كلما حدقت في المرآة،
لا أدري أي وجه عتيق يبحث عن صورته
في غضب حذر مكبوت.
ينمو العمى رويداً رويداً،
أتحسس بيدي خطوط وجهي.
شعاع ضوء يصل إلي:
لقد خلقت شعرك
من غبار ومن ذهب.
أقول إني لم أفقد سوى
قشرة الأشياء.
ما أبلغ وأنبل كلمات الشاعر ملتون،
لكني ما زلت أبداً أفكر في الأحرف والرموز،
أفكر كذلك في أنه لو كان لي
أن أرى ملامحي،
لعرفت من أنا
في تلك الأمسية التي لا يجود بها الزمن كثيراً.
جونار ثورجيلسون
(1879-1816)
ذاكرة الزمن
حبلى بالسيوف وبالسفن
بغبار الإمبراطوريات
بالشائعات وبهدير البحار
بجياد الحرب
بالصيحات وبشكسبير.
أتذكر قبلتك
التي طبعتها على جبيني
في آيسلندا.
القمر
(إلى ماريا كوداما) *
هناك وحدة في ذلك العقيق.
قمر الليالي ليس هو ذات القمر
الذي رآه آدم أول مرة.
لقد ملأته القرون شجناً
انظر إليه
إنه مرآتك.
الحمراء
ما أجمل خرير المياه
ورمال سوداء في كل مكان.
ما أجمل تلك النقوش
أقواس من رخام على أعمدة.
ما أجمل متاهات المياه
عبر أشجار الليمون.
ما أجمل تواشيح الزجل.
ما أجمل الحب والصلاة
للواحد الأحد.
ما أجمل الياسمين.
ما جدوى هذه السيوف المعقوفة
أمام تلك الرماح الطويلة؟
كلها تتنافس لتكون الأجمل.
ما أنبل حزن الملك،
ونحيب الوداعات،
مفتاح لم يعد لك،
صليب الملحدين يغطي وجه القمر،
فتلك الأمسية آخر الأماسي.
الإسكندرية 641 ب.م.
منذ أبصر آدم الليل والنهار
وراحة يده،
كتب الناس قصصاً
على الصخور والمعادن وجلود الحيوان
كتبوا كل ما احتواه العالم، كتبوا الأحلام.
هنا ثمرة عملهم: المكتبة.
يقولون إن الكتب هنا
تزيد عن النجوم
أو عن ذرات الرمال
في الصحراء.
يقولون إن من يحاول قراءتها جميعاً
يفقد عقله وبصره.
هنا ذاكرة القرون الخوالي،
السيوف والأبطال،
ورموز علم الجبر،
المعرفة بالنباتات وبالقدر،
الأعشاب والتداوي،
أبيات حب لا تنتهي،
لاهوت ينير الطريق للخالق،
كيمياء تحيل الطين إلى ذهب،
كافة أسرار الأصنام.
يقول الدهماء أن بحرقها
يحترق التاريخ.
لقد كانوا على خطأ
فقد كتب البشر عدداً لا يُحصى من الكتب.
ولو لم يتبق من كل ذلك شيء،
فسوف يخط البشر سطوراً وصفحات
ينطق كل منها بحب هرقل
وبتعاليم المخطوطات.
في القرن الأول للإسلام
أنا، عمر الذي انتصر على الفرس
ونشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها،
أآمر جنودي أن يحرقوا
تلك المكتبة العملاقة،
الحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم،
والصلاة على نبيه محمد.
الألغاز
أنا من يرتل اليوم هذه الأشعار
سوف أضحي غداً أثراً بعد عين
أغفو في عالم مسحور مهجور،
دون قبل أو بعد أو متى.
هكذا يقول المتصوفون،
أما أنا فأرى أني
غير جدير بالجنة أو بالنار،
لا أتكهن بشيء.
يتبدل مصير الإنسان
كما تتبدل صورة بروتيوس المائية.
يا لها من متاهة محيرة،
يا له من شعاع يصيبنا بالعمى
العظمة والمجد مصيري
عندما تنتهي المغامرة
ما كنه الموت؟
أود لو أحتسي النسيان،
لأكون أبدياً،
دون أن أكون قد وجدت قط.
رباعيات
لتوزن أشعاري بميزان فارسي
لأتذكر أننا جميعاً
من نسج أحلام الزمن
حالم صامت ينثر الأحلام.
ليذكرنا مرة أخرى أن النار محض غبار،
وأن الجسد غبار
وأن النهر الذي يجري عبر حياتي وحياتك
يتجاوزنا رويداً رويداً.
ليذكرنا مرة أخرى أن التمثال الجميل
يذوي في مهب الريح
لكنه مثل الضوء السرمدي
للواحد الديان – قرن من الزمن في لحظة.
لينبئنا أن القبرة الذهبية
لا تغني إلا عندما يُرخي الليل سدوله
عندها يتردد الصدى في النجوم البعيدة
فتتلألأ كالكنوز المسحورة.
ليطل القمر على ما نخط من أشعار
كما يطل من جديد على الحديقة
في بواكير الربيع الأزرق
ذات القمر الذي يفتش عنك سُدى.
تحت ذلك القمر العذب في المساء
البحيرة صورة مصغرة ليوم عابر
شذرات صور أبدية
تنعكس على تلك المياه.
ليعاود القمر الفارسي
وليعاود الذهب المهجور الظهور
اليوم هو الأمس، وأنت الآخرين
وجوههم غبار. أنت الموتى.
الانتحار
لن يبق نجم واحد في الليل.
لن يبق الليل ذاته.
سأموت، ومعي
عبء كون لا يُحتمل.
سأمحو الأهرامات والآثار،
القارات والوجوه.
سأمحو الماضي المتراكم.
سأحيل التاريخ غباراً،
غباراً في غباراً.
والآن أرقب الغروب الأخير للشمس،
وأصغي لآخر ترنيمة عصفور.
لا أدين بشيء لأحد.
___________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *