محمود شقير*
خاص ( ثقافات )
الأيام الأولى
1
ها أنذا في نصف الكرة الغربي.
بعد خمس سنوات من عودتي إلى الوطن، أسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
أجلس في مطار جون كنيدي في نيويورك، في انتظار الطائرة المغادرة إلى سانت لويس.
لو عُرضت عليّ هذه الرحلة في زمن سابق، زمن المبالغة في الحماسة لكل ما هو إيديولوجي، لرفضتها! ها أنذا أقبل دعوة من منظمة أمريكية تقع على النقيض من قناعاتي! فهل يعني هذا أنني تغيرت؟.
أجلس ساكناً في المطار، أتأمل ما حولي بنوع من الهدوء، فأنا قادم من منطقة لا تعرف الهدوء. تصعد في السماء ببطء، شمس مجللة بقطع متناثرة من الغيوم. ثمة برودة غير محببة، وأشعة الشمس التي تخترق الواجهة الزجاجية العريضة لا تشي بأنها قادرة على تبديد البرودة. أجلس مرهقاً من ساعات الطيران التي قاربت إحدى عشرة ساعة، وأبدو متبلّد الأحاسيس، لا أرى شيئاً مفاجئاً حتى هذه اللحظة! (كأن المفروض أن أجد المفاجآت أينما اتجهت، أو كأن المفروض أنني كولومبوس جديد!)
أنا الآن في أمريكا. يروق لي هذا السفر، ثمة فرصة لمشاهدة مناطق جديدة في هذا العالم، للتعرف إلى أناس جدد. ثمة فرصة للتأمل في رحلتي الخاصة في الحياة. تتردد في ذهني نتف من أفكار وتصورات قديمة وجديدة، أقصيها لحظات وأنا أتابع امرأة فلسطينية في الأربعينيات، تضع على رأسها إيشارباً أبيض، تتحدث الانجليزية بطلاقة، تشع من عينيها علامات ذكاء وثقة بالنفس، من حولها خمسة أولاد وبنتان، تتراوح أعمارهم بين العاشرة والعشرين. يتحدثون الانجليزية بطلاقة، وفيهم من رشاقة أمهم وذكائها قدر ما. (أعجبت بالمرأة الواثقة من نفسها، ورحت أتذكر صادق جلال العظم وهو يعلق آمالاً على مسلمي أوروبا وأمريكا، لعلهم يقدمون صورة جديدة حضارية عن الإسلام بسبب امتزاجهم بالحضارة الغربية وتشرب قيمها إضافة إلى قيمهم الأصلية) ثمة امرأة فلسطينية أخرى، في الثلاثينيات من عمرها، لا تفتأ بين الحين والآخر، تنادي طفلها الذي يتفلت من بين يديها مبتعداً: تعال يا عمّار! يتلفت بعض الإسرائيليين ممن كانوا على الطائرة نفسها، وها هم أؤلاء يجلسون في انتظار مواصلة الرحلة، يتلفتون نحو المرأة بفضول، لأن اسم ابنها كما يبدو يثير في نفوسهم هاجساً ما. والأم تواصل رفع صوتها منادية “عمّار”، طالبة منه عدم الابتعاد منها. كان قصدها بريئاً بطبيعة الحال.
تمتلئ الصالة بالمسافرين إلى سانت لويس.
خليط من البشر من مختلف الأعمار والألوان، وأنا لا أتوقف عن اجترار أفكار وتصورات غير مترابطة، والشمس ترسل أشعة فاترة من خلف الزجاج، ولا أعرف حتى هذه اللحظة ما الذي تفعله مدينة نيويورك في هذا الصباح المبكر. في أحد ممرات المطار، رأيت صورة لمبنى الأمم المتحدة. تحته تعليق لم يجتذبني: تعال إلى الأمم المتحدة لترى كيف يُصنع السلام! ذكّرني الإعلان بأن ثمة حروباً عديدة تندلع الآن في عالمنا، من بينها الحرب التي تدور ضد الشعب الفلسطيني، بشتى الوسائل والأشكال.
حتى الآن لم تتحرك في نفسي عناصر الدهشة، ربما لأنني لم أعد طفلاً ينبهر بالمدن والمطارات، وربما لأنني اعتدت كثرة السفر ودخول المطارات والخروج منها. لكنها أمريكا التي تأتي إليها الآن، أمريكا بكل ما في الذهن من تصورات عنها وأفكار.
2
استيقظت في الخامسة والنصف صباحاً.
نمت عشر ساعات متواصلة. نهضت مبكراً على غير عادتي في الصباح.
أزحت ستارة النافذة. الظلمة ما زالت تخيم على المكان. ثمة تلال خفيضة تحيط بالمبنى، تلال مليئة بأشجار حرجية متكاثفة، ونوافذ المبنى كلها سادرة في الظلمة والصمت. ليس ثمة سوى نافذة واحدة مضاءة لسبب ما. كان المشهد الصامت السابح في العتمة مثيراً لمشاعري. أنا الآن على بعد آلاف الأميال من بيتي. تذكرت الرحلة الطويلة المتعبة: أربع عشرة ساعة من السفر في ثلاث طائرات. لم أجد أحداً ينتظرني في مطار سيدار رابيدس، لم أتفاجأ، فمثل هذا الأمر يحدث أحياناً. اتجهت إلى موظفة الاستعلامات في المطار، أعلنت الموظفة في المايكروفون عن وصولي. جاءت امرأة تعمل سائقة تاكسي ومعها قائمة بأسماء الكتاب الضيوف. كان اسمي بين الأسماء، نقلتني في سيارتها إلى سكن الطلاب والطالبات التابع لجامعة أيوا. اسم البناية الضخمة ذات الطوابق الثمانية، التي يتشكل منها السكن، “مي فلور” (زهرة أيار). استغرقت الرحلة من المطار إلى السكن خمساً وعشرين دقيقة. على جانبي الشارع تمتد مساحات من الحقول الخضراء وجمهرات الشجر. الطقس صيفي حار إلى حد ما والمنطقة هادئة، كنت أردد في داخلي بين الحين والآخر: ها أنذا في أمريكا، ولم يكن ذلك أمراً سيئاً.
جاء الرجل المكلف بانتظاري في المطار. التقاني في الطابق الأرضي من سكن الطلبة، وجدني جالساً بالقرب من حشد من الطلبة والطالبات. تلبسني إحساس بأنني طالب في الجامعة، أبهجني هذا الشعور إلى أن جاء الرجل. قال إنه انتظرني هناك. لم أناقشه في الأمر، إذ يبدو أنه وصل متأخراً إلى المطار ولم يجدني. أخذني إلى الغرفة التي تحمل الرقم 829 في الطابق الثامن من المبنى. كان المبنى مثل خلية نحل. الطالبات والطلبة الذين عادوا إلى الجامعة بعد عطلة الصيف، ينقلون أمتعتهم إلى غرفهم من دون توقف، الطلبة يصخبون والطالبات يمضين إلى غرفهن بعفوية محببة. بدا المشهد ممتعاً.
تأملت الغرفة المخصصة لي، في الحقيقة هي أكثر من غرفة، يمكن القول غرفتين، أو غرفة ونصف ضمن شقة بمدخلين، إن أردنا الدقة: غرفة نوم وبجوارها غرفة أخرى صغيرة فيها مكتب مستطيل، من المتوقع أنني سأستخدمه للكتابة. في الغرفة سرير عادي، ذكرني بأيام الشباب حينما كنت أسكن وحيداً أثناء عملي مدرّساً في القرى والمدن البعيدة، ولم يكن الأمر سيئاً. ثمة فرصة لتجديد شبابي وأنا في السابعة والخمسين من العمر، وكنت راغباً في ذلك. في الغرفة أيضاً، كرسي متحرك، تلفاز ما زال محفوظاً في صندوق من الكرتون، بوفيه مكون من جوارير عديدة، وخزانة في الحائط للملابس. ثمة مطبخ وحمام من المفترض أن ضيفاً آخر يسكن في الجانب الآخر من الشقة سيشارك فيهما، ولم يرق لي أمر هذه الشراكة.
كنت الضيف الأول الذي يصل إلى هذا المكان. أخبرني الرجل إياه أن عدد المدعوين هذا العام تسعة عشر كاتباً وكاتبة. (في سنوات سابقة كان العدد أكبر من هذا بكثير) دلني الرجل على سوبر ماركت في الطابق الأرضي من المبنى، ذهبت إليه. السوبرماركت خاص بصندوق الطلبة وهم الذين يديرون شؤونه. ثمة طالبات وطلاب يقومون بعمليات البيع. وجدت الأمر مسلياً، وها أنذا أبدأ علاقات جديدة، بسيطة.
اشتريت جبناً وخبزاً، اشتريت بسكويتاً وسكراً وموزاً، وعدت إلى الغرفة. رتبت ملابسي في الخزانة، أكلت شيئاً من الخبز والجبن، ثم جلست لكي أستريح. هبطتُ مرة أخرى إلى السوبرماركت، اشتريت محارم ورقية ومياهاً معدنية وصابوناً. سأعيش في هذا المكان ثلاثة أشهر، شعرت بسرور ممزوج بشيء من الأسى الغامض، (قيل لي فيما بعد، إن أحد أقاربي توقع أن أعود إلى البلاد ومعي زوجة ثانية، شقراء أمريكية) قلت في نفسي: ليس ثمة سرور مكتمل، أو على الأقل، هذا ما يحدث لي غالباً.
سمعت طرقات خفيفة على الباب. ثمة شاب ضخم الجثة يحمل أوراقاً في يده، اعتقدتُ أنها أوراق يانصيب. تحدث الانجليزية بلكنة لم أفهم منها شيئاً، تظاهرت بأنني فهمت ما قاله، قلت له إنني لا أريد شيئاً. اعتذر ومضى. أغلقت الباب وشعرت بالقلق: كيف يستطيع شخص لا علاقة له بهذا المبنى أن يدخله بمثل هذه البساطة، ويصعد إلى الطابق الثامن من دون أن يعترض سبيله أحد؟ طافت بذهني الأخبار التي سمعتها من قبل عن لصوص المدن الأمريكية. أقنعت نفسي بأن لا ضرورة للقلق، لأن النهب في مثل هذا المكان غير واقعي. (أو على الأقل هذا ما ينبغي أن يكون)
ابتعدت عن النافذة، ولم أشأ الاستمرار في استعراض الوقائع الصغيرة التي صادفتني منذ وصولي يوم أمس إلى هذا المكان. أخذ الفجر يشق طريقه بسهولة فوق التلة المجاورة. حلقت ذقني واغتسلت، غليت ماء في الإبريق، جهزت لنفسي كأساً من البابونج. (أحضرت معي كمية من البابونج والنعناع والميرمية) لم أجد ملعقة صغيرة في المطبخ، سأستكمل مثل هذه الأشياء فيما بعد، ولم أكترث كثيراً للأمر، فأنا ساكن جديد. تناولت فطوراً بسيطاً: جبناً وخبزاً وبضع قطع من البسكويت.
الساعة تقترب من السابعة والنصف صباحاً. سأقرأ قصة قصيرة باللغة الانجليزية في كتاب اشتريته أمس من مطار سانت لويس، يتضمن عشرين قصة قصيرة أمريكية، ثم أخرج لمقابلة المرأة المسؤولة عن برنامج الكتابة الدولي، الذي جئت إلى هنا للمشاركة فيه.
______
*روائي وقاص من فلسطين.
______
*روائي وقاص من فلسطين.