لماذا الثورة على الفكر العربي؟


محمد الأسعد


قبل شهر تقريباً، مرّت الذكرى السنوية الأولى لوفاة الباحث والناقد الأدبي السوداني المصري محيي الدين محمد (1928-2014)، واضمحلت من دون أن يتذكرها أحد، أو يتذكر كتابه الشهير«ثورة على الفكر العربي المعاصر» (المكتبة العصرية، صيدا، 1964). وقبل ذلك لم يتذكر إلا أفراد قلائل هذا المفكر الذي انقطع عن الكتابة يأساً بعد سنوات قليلة عاصفة في ستينات وسبعينات القرن العشرين، فبدؤوا بالبحث عنه والتساؤل إن كان حياً أو ميتاً، وما إن عثروا على طرف خيط قادهم إلى أحد أحياء القاهرة حتى علموا من ابنة أخت له هناك أنه توفي في 20 يونيو/حزيران 2014.
أي بعد مرور نصف قرن على صدور كتابه الآنف الذكر.
في تلك الأيام لم يكن حتى سؤال: لماذا الثورة على الفكر العربي المعاصر مطروحاً، ومرّ الكتاب وصاحبه محاطين بصمت كثيف إلا من مقالة عابرة كتبها «يوسف حوراني» في مجلة «حوار» (عدد نوفمبر/‏‏ديسمبر 1964)، تلك المجلة التي ستختفي أيضاً مع مطلع عام 1967 بعد أن اكتشف رئيس تحريرها «توفيق صايغ» أن «منظمة حرية الثقافة» الممولة لها ليست سوى واجهة «ثقافية» للمخابرات الأمريكية، فأغلقها وانسحب من الجغرافية العربية.
ستكون لنا عودة في المقالات القادمة إلى هذه المجلة وأمثالها في سياق تناولنا للمشروعات الثقافية العربية، أما الآن فسنركز هذه المقالة على هذا الكتاب الذي طرح منذ وقت مبكر، أعني قبل شيوع البحث في إشكالية العقل العربي على يد «محمد عابد الجابري» و«نصر حامد أبو زيد» و«محمد عركون» بزمن طويل، وضرورة تغيير النظرة إلى التراث كله ليتمكن العقل من الخروج من محدودية الخرافة والتسليم والرضى، وهو مشهد من أشد المشاهد الإنسانية تعساً وخزياً، إلى انطلاق العقل والمحاجاة وطلب تحقيق العدالة والحرية.
كان الكتاب، بمقالاته المتنوعة التي نشرت قبل ذلك على صفحات «الآداب» البيروتية، نقداً جذرياً للعقلية العربية، كان رؤية جذرية لم تعصف بالثوابت الفكرية فقط، بل تقوم على تعزيز الحساسية الجديدة التي يتمتع بها حملة الاستنارة الفكرية والنقد الساعي إلى نقل المجتمعات إلى وضعية حضارية معاصرة.
ولم يكن لكل هذا من أهمية لو لم ترفد هذا النقد الذي أطلق عليه صاحبه لقب «ثورة»، جرأة فكرية وسعة ثقافة متنوعة المصادر والوجوه، شأنه في ذلك شأن كل المشروعات الثقافية الجادة التي كان يطرحها مفكرون عرب على قلتها، بين عهد وآخر طوال القرن الماضي، مثل كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق (1925)، وكتاب «في الشعر الجاهلي» بقلم د. طه حسين (1926)، وأطروحة «الفن القصصي في القرآن الكريم» من تقديم محمد أحمد خلف الله(1947-1948) و«شخصية الفرد العراقي» لعالم الاجتماع د. علي الوردي (1951)، و«في الثقافة المصرية» لعبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم (1954) وكتاب د. نصر حامد أبو زيد «النص.. السلطة.. الحقيقة» (1995). لم يكن الكتاب يقتصر على مجرد الدعوة إلى الثورة الفكرية، وهي موضوعة سيُرغم على المطالبة بها لاحقاً عدد من الكتاب تحت هول كارثة حرب يونيو/‏‏حزيران (1967) ومنهم د. محمد النويهي (والآن إلى الثورة الفكرية، مجلة الآداب البيروتية، فبراير/‏‏شباط- مارس/‏‏آذار 1970)، أن يقل تأثيراً عن هذه الكتب إلا أن السياق الذي جاء فيه احتجز ممكناته النقدية.
في ذلك السياق، أواخر خمسينات القرن العشرين ومنتصف الستينات، كانت الأذهان مشغولة بتمجيد ما تراءى أخيراً على أنه نهضة عربية أو ثورة تحقق انتصاراتها في شتى المجالات، فكانت الدعوة إلى النقد الجذري للقيم والأخلاق السائدة آنذاك، والدور القيادي للمفكرين ومسؤوليتهم في تغيير الذهنية العامة وإخضاعها لقوانين المنطق والعلم، ورفض الماضي والحاضر والتاريخ على حد سواء، تبدو غريبة لا مكان لها وسط الحماس العارم والثقة الشائعة بالقيادات البارزة آنذاك، الفكرية والأدبية والفنية والسياسية.
ولم تكن مآخذه في الفصل الثاني من الكتاب على لاأدرية الشباب المصري وتسليمه بالأمور بروح متخاذلة، وإرجاعه السبب إلى الروح السائدة في الجامعات المصرية، ستجد صدى أو استجابة في الحد الأدنى، وخاصة حين يطالب الدولة بالتخطيط الواعي والتوجيه الفعال للتربية، في وقت كان فيه كل شيء «على ما يرام» من وجهة نظر أولياء أمور التربية والتعليم والثقافة.
ولنا أن نتساءل عن ملامح هؤلاء، وملامح أدبائهم المتنعمين بالأوضاع القائمة والساكنة، كيف أصبحت حين وقعت أعينهم على ما ورد في فصل أزمة الأديب في المجتمع العربي، حين نبه الكاتب إلى وطأةِ الوضع الاجتماعي على الأديب وشعوره العنيف باللاحرية، وتأكيده على أن ليس هناك قوة في الأرض تستطيع منع الأديب من التعبير والقول.
أما الفصل الذي تناول فيه «مشكلة حرية الفكر»، تلك التي تحلها الأنظمة العربية عادة بضربة واحدة، بإنكار أن تكون هناك مشكلة اسمها «حرية الفكر»، فقد كان أكثر فصول الكتاب استفزازاً للعقليات الحاكمة في تلك الأيام، كما هو في أيامنا هذه.
ولنا أن نتخيل ماذا سيكون عليه رد فعل سدنة الثقافة آنذاك حين يلح كاتب على ضرورة الحرية، ثم يختم الفصل بالقول إن علينا أن نناقش ونصرخ ونجادل ونكتب ونناقض وندافع ونستميت في سبيل إظهار الحقيقة. ولتتقدم السلطة فتسجن أجسادنا وتشنقنا، فذلك بالذات هو انتصارنا وشرفنا». ويجيء هذا بعد أن يستعرض وضعية الإنسان في التاريخ، في عصوره القديمة وقرونه المظلمة وصولا إلى العصر الحديث، عصر التنوير والعقل، وحرية الفكر التي استشهد في سبيلها كبار المفكرين والفلاسفة والعلماء في الغرب، ليبرهن على أن ليس هناك قوانين ثابتة يمكن لها أن تحمل اسم الحقيقة الثابتة، فما هو حقيق بالإنسان«ليس سوى جدارته الشخصية في رفض كل قالبٍ سابق عليه». وعن الفلسفة، نجده يصلها بمطلب الحرية عن غير الطريق الشهير، على الفلسفة الآن أن تغير العالم بعد أن قضت زمناً مكتفية بتفسيره، فيقول محيي الدين محمد: «كانت الفلسفة في القديم تفضي إما إلى الأخلاق المحضة وإما إلى الميتافيزيقا، أما الآن، فإن الفلسفة تعتبر نفسها ممراً إلى الحرية الإنسانية». وأخيراً ينصرف إلى دراسة الأعمال الفنية لعدد من الأدباء والشعراء والفنانين في الشرق والغرب، وأيضاً في ضوء الحاجة إلى تحرير الإنسان وتمجيد حريته. فنجد وظيفة الفن أن يبتر القلق والتوتر اللذين هما سبب أساس لنكسة الفرد وتحوله إلى عبادته الصنمية، العزلة ومرض الأعصاب والجمود.
ويقول إن فعل الفن يبدأ من الباطن، ويمكنه فقط من الباطن أن يزيح هذا الحجر الثقيل من فوق القلب البشري المعذب، وللفن فقط هذه القدرة السحرية التي يمكنها أن تحول المرارة إلى فرج، والتوتر إلى شعور دافق بالإيمان. وستبرهن أحداث سنوات نصف القرن اللاحقة على صدور هذا الكتاب، كم أن أسباب ثورته على الفكر العربي الذي عاصره، والذي عاصرناه من بعده، كانت وافرة، تماماً كما كانت وافرة أسباب إحاطته بالصمت، فقد فكر آنذاك بغير المفكر فيه، وتجرأ ولمس مواضع حساسة في فكر وسلوك مجتمعات لم يسبق أن واجهها أحد بهذه الجرأة.
_____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *