مقطع من رواية” الفردوس المحرم “


يحيى القيسي*

( ثقافات )



لا أدري كيف حصل “أبوصالح ” على رقمي الهاتفي، وورطني في مغامرة لم أتوقع حدوثها يوماً، قال لي إنّه سمع عنّي من أحد الأصدقاء الذي نصحه بالتواصل معي، لعلني أفيده في أمره، وأنه تصفح روايتي ” أبناء السماء” قلت له: إن كان الأمر يتعلق بنقاش أدبي حول روايتي، فسيكون ذلك في محاضرة سيتم ترتيبها بأحد المنتديات الثقافية بعمّان وسأخبره بموعدها قريباً..!

ضحك الرجل طويلاً بما يشبه القهقهة التي بدت لي خارجة من أعماقه كما لم يضحك من قبل، وقال جملة بدت مفعمة بالسخرية ” رواية شو يا رجل ..أكيد انت بتمزح…..!!” وطلب أن نلتقي لشرب فنجان قهوة، وبعدها سيتحدث لي عن الأمر الذي يريدني من أجله، وبالفعل التقيته في موعد اختار مكانه بنفسه في مقهى “فيرنيانو ” بمكة مول.

كان رجلاً طويلاً، ذا ملامح متجهمة، يميل لون بشرته إلى السمرة الداكنة، وبشاربين كثّين، غير أنّه بدا لي أنيقاً، ورائحة عطره مميزة، ورغم ذلك يخرج المرء بانطباع قابض للنفس من أول وهلة للقائه، قال لي إنّه يحبّ هذا المقهى لأنّه يتمكن فيه من التدخين، وقبّته السماوية في الليل يتم فتحها فتدخل نسمات الهواء، ويخيل إليه أنّه يجلس في الصحراء تحت نجوم السماء، وفهمت منه بعد حوار قصير إنه مهتم بالدفائن، ويعرف الكثير من أسرارها، غير أنّه صدمني بقوله إنّه كان على صلة بجماعة عجلون الذين كانوا يبحثون عن الكنوز، وأنّ ضابط الأمن المتقاعد فواز بك الذي ذكرته في كتابي صديقه، وسبق أن شاركه مغامراته في البحث عن الذهب، ولما كنت أودّ أن أشرح له أن الأمر كله محض خيال كاتب، وعمل روائي، لم يتركني أتابع، بل قال لي بشكل حازم: يا رجل لا تتردد ….ستكون لك حصة كبيرة ……فقط أريد أن أطلعك على شيء خاص، وأن تساعدني في حلّ الورطة التي وقعنا بها، واضح أنّك خبير في هذه الأمور، أعرف أنك تحاول أن تخفي الأمر خوفاً من متابعة الأمن لنا، فلا تقلق، فأنا نفسي ضابط أمن، والأمور كلها تحت السيطرة، والكل يبحث عن نصيبه “..!
ولا أدري كيف سحبني الرجل بحيله الكلامية، ووعوده المشوقة إلى سيارته الفارهة، وأحيانا بتهديدات مبطنة، فوجدتني أجلس بجانبه في سيارته السوداء الضخمة، وقال لي:

هو مشوار قصير لن يتجاوز الساعة إلى الأغوار عند بعض الأصدقاء، وهناك سترى بنفسك ما وصفته لك..وبعدها أترك الأمر لتقديرك ….!

وشعرت كما لو أنّ حمّى الكنوز الدفينة قد أصابت هذا الرجل بلعنتها، وأنها طالتني أيضاّ فقد عجبت كيف أن شخصيات روايتي أصبحت تطاردني من مكان إلى آخر، كما لو أنها تحولت إلى لحم ودم، فالكلّ يدّعي وصلاً بها، وأنا آخر من يعلم…!

كان الرجل يدخن بشراهة، وهو يقود سيارته هابطًا إلى الأغوار عبر طريق المطار، ثم الانحراف غرباً عبر ” مرج الحمام ” ونزولاً باتجاه طريق ” ناعور ” المتعرج الذي يقود إلى فلسطين أيضاً، وهو يتحدث بلا توقف، وحين كان يفتح صندق تابلو السيارة الداخلي بين الحين والآخر لتناول علبة سجائره كنت ألمح مسدساً أسود بفوهة فاغرة شعرت بها تكاد تلتهمني، وكانت تلك إشارة كافية لي للمضي مع الرجل في مشواره دون أدنى تردد…!

كان الوقت يقترب من العصر حين واجهنا أولّ مدخل المدينة حيث نصب ” الجندي المجهول ” ما يزال هناك يشير بيده إلى أمر ما دون كلل منذ رأيته في رحلتي المدرسية الأولى إلى البحر الميت قبل أربعين سنة، فتركناه على يسارنا ويمّمنا باتجاه الشمال، ثم انعطف بنا الرجل في طرق فرعية داخل أدغال مزارع الموز والحمضيات، وبدا لي أنه يحفظ مساره عن ظهر قلب، وعرفت أنه من مواليد هذه المدينة الريفية الصغيرة غير أنه تركها وذهب للعيش في فيلا بأحد أحياء عمان الراقية بعد ان تغيرت أحواله في الوظيفة..وباع بعض الأراضي التي ورثها عن والده لإقطاعيي عمّان الذين يمتلكون جلّ المنطقة ..ّ!

ولما ولجنا في أعماق المزارع، وابتعدنا عن العمران، وضاق بنا الطريق، وأصبح ترابياً ظهر لنا فجأة من بين الشجر رجل ملتف بشماغ أحمر، أشار للسيارة بالوقوف، وبدا لنا ما يشبه الحاجز أو البوابة للدخول، وكأنّها منطقة ممنوعة، أو معسكر جيش لا ينبغي للأغراب أن يتجاوزوا حدوده بأيّ حال، فمد ” أبوصالح ” للرجل يده من النافذة مسلماً، فعرفه ورحّب به بشدة، وفتح لنا الحاجز مشيراً بالدخول، ولم نمض في سيرنا كثيراً حتى لمحت بيتاً ريفياً بدا لي شبه مهجور في منتصف هذه الغابة من الأشجار الكثيفة المتشابكة التي تجعل العثور على المرء فيها، كمن يبحث عن إبرة في كومة قش …!

ظهر لنا مجموعة رجال يبدو أنهم ينتمون لقبيلة رفيقي الذي شعرت بأنّي معتقل لديه حتى حين، والله وحده يعلم ما الذي ينتظرني. كانوا يسلمون عليه بحفاوة وينادونه ” أبو صالح بك ” وكان بعضهم يدلّي مسدسه بشكل واضح على حزامه دون أن يأبه لأحد، وتلك ظاهرة لا يمكن أن تكون عادية في أيّ مكان بالأردن، أي الرجال المسلحين علناً، وفكرت لوهلة أني في كابوس حقيقي، وما أزال نائماً في فراشي بعمّان، ولمحت في غمرة الاستقبال بالرجل، قططاً سائبة ودجاجاً وبضعة خراف، وكلباً، وسيارة ” بكب ” قد أكلها الصدأ، وكما لو أن أهل المكان يعيشون عزلتهم باكتفاء ذاتي ولديهم ما يرغبون، وشعرت بنسمة هواء باردة مرت على قطرات العرق التي انسابت على وجهي من قيظ الغور الملتهب وسخونة الموقف الذي وضعت فيه، ولما رأيت التساؤل على وجوه القوم عن الضيف الغريب الذي اقتحم وكرهم، أخبرهم أبو صالح بأنّ ” الأستاذ ” – وهذا اللقب هو الذي كان بين الحين والآخر يخاطبني به منذ عرفته- ..لديه خبرات بالموضوع وسيساعدنا..”، وأنه من ” عيلة طيبة ونشمي ” وهمس لهم بكلمات أخرى لم أفهم منها شيئاً، غير أن توجسهم قد زال قليلاً، وخف عندهم مستوى التوتر الأمني، ورغم ذلك فقد كنت في حالة يرثى لها، ألوم نفسي على تلك اللحظة التي رددت فيها على مكالمته، ولم أعرف ما يتربص بي من مفاجآت في بيت شبه مهجور بمزرعة على بعد أقل من كيلومتر ربما من نهر الأردن حيث رشاشات الإسرائيلين في الضفة الأخرى من النهر متأهبة وتنتظر أن تحصد أيّ هارب باتجاهها، أما من الجهة الشرقية التي نحن فيها فقد تكون هناك كمائن لشرطة مكافحة المخدرات تتربص بالخارجين من هذا الأرخبيل الذي كانت الإشاعات تشير إلى أنه مرتع لمزارع سرية للماريغوانا وأنواع الحشيش، وإذا كان المرء محظوظا ً فقد يواجه أدغالاً مظلمة تحيط به من كلّ جانب وتسوح فيها الجهات، ولا يعرف فيها شماله من يمينه، بينما تجوح الكلاب الضّالة، وتسرح قطعان الخنازير البرية المتوحشة التي يرسلها الإسرائيليون لتدمير المزارع ونقل الأمراض، وأنا في ذلك الموقف العصيب بين نحو سبعة رجال مدججين بالأسلحة ينتظرون مني أن أحسم لهم أمراً غامضاً، لم أعرف تفاصيله بعد…..!

* مقطع من رواية ” الفردوس المحرم ” تصدر قريبا
** يحيى القيسي : رئيس تحرير ثقافات

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *