بيلار عمر
السؤال المعضلة الذي كان مطروحاً على البشرية منذ وجودها: هل الغاية تبرر الوسيلة أو العكس؟ يغامر الروائي التونسي كمال الرياحي بمعالجته في ميدان روائي وفضاء فلسفي يجادل الانزياحات السوسيولوجية لعلاقة الفرد مع الجماعة أو العكس، أو لعلاقة الفرد مع ذاته بمواجهة منظومة القيم التي يختزنها أو يتلقنها، وذلك عبر روايته «عشيقات النذل» وهي الثالثة الصادرة عن دار الساقي بعد روايتي «الغوريلا» و”المشرط”
أهمية الرواية تتبدى في جرأة كاتبها على تناول «التابوهات» المصطنعة أو الموجودة شكلا وليس فعلاً . فإلى متانة النص وانسيابه ضمن تقنية الرواية العالمية، هناك الفضاءات التي يرتادها الرياحي بكثير من الجرأة فتقمص بصفته وشخصه في شخصيات الرواية، وتنذل مع «عشيقاته» في قبو مظلم. هو النذل الأكبر أو «إله الأنذال» كما يسمي نفسه في سياق مكاشفة مع الذات «المخفية» وراء صور مُنمطة، وذلك بهدف المصالحة مع الذات.
ينطلق الروائي من خلاصة فكرية جدلية تحتمل التأويل مفادها أن وجودنا في الحياة هو نتيجة جريمة أو خطيئة. وعلى هذه الخلاصة الفكرية التي يطرحها في ميدان تجريبي معرفي يضم الصراع الطبقي بالمعنيين السوسيولوجي والفلسفي، تنهض مجموعة من الأفكار تتناول الشغف والجنس والعلاقات بين الأفراد ومعنى الكراهية والود والثقة وفي إطار اجتماعي يجمع سائر المتناقضات في حبكة يتصاعد الشغف فيها لمعرفة التفاصيل إلى حد يقطع الأنفاس.
الرواية صاغها صانعها بمهاراته الثلاث: الرسام، الروائي والإعلامي. وتجلياته في الميادين هذه تبدو واضحة في كل فكرة يطرحها على القارئ. فهو يكتب من دون خطوط حمراء ولا حتى وردية. خطوطه دائماً خضراء في مواجهة التفكير بكل ما يطرحه البشر على أنفسهم من أسئلة: علنية أو ضمنية.
ينهض بناء الرواية على جرأة متناهية يتضح معها أن الرياحي يكتب «أدباً لا تأديباً» وليس لديه ما يراعيه من حواجز بُنيت في العقول، ففي العقول التي تفرز كل هذه الويلات والمآسي يجب البحث عن أفق للخروج إلى فضاء المصارحة مع الذات ومن المصالحة معها.
ألوهية نذالته تتجلى في مواجهة أخطر الأسئلة الإجتماعية التي تنبثق عن علاقة عشيقين: «انا حبلى هل ستبقى معي؟”. سؤال طرحته عليه عشيقته «حياة«، ليتساوى في «نذالته» بموقف مقاربة مع بطل في الرواية هو الكاتب والسيناريست «كمال اليحياوي» الذي يبقى أياماً يفكر في جواب، لا يتضح إلا ضمن فصول الرواية.
الرواية في بدايتها قد تبدو بوليسية، لكنها بالأحرى عن النذالة، أو عن مجموعة من الأنذال تربطهم علاقات ومصالح، فيستخدم كل نذل منهم وسائل «نذلة» ليفتك بنذل آخر عبر الابتزاز والخيانة والجريمة حيث الغاية تبرر الوسيلة، والاضعف هو من يدفع ثمن الانتقام، فمن سيكون الاضعف من بين عشيقات النذل، وهل سيجيب كمال عن سؤال عشيقاته؟ ومع من سيبقى؟
شخصيات الرواية السبعة تصفي كل الأشياء العالقة بطريقة «داعشية» فتقوم بقطع رؤوس القطط بشكل فج وأحياناً تفتح البطون وتنتزع الاكباد من الجثث وتطبخها.
ناديا، حياة، هند وسارة، هن «عشيقات النذل» يتحدث الكاتب بلسانهن ويقرأ ما يجول في خيالهن وتفكيرهن وفي مكان ما تجد الرياحي يدافع عنهن ويصف الرجال «بالحمقى، فكلما رفضت احدهم امرأة اختلق رجلا آخر حمّله سبب فشله».
في الرواية تُقتل «سارة»، الفتاة المراهقة ذات السبعة عشر ربيعاً، التي يتحرش بها انذال الرواية، فتتّهم والدتها ناديا، وهي صاحبة مؤسّسة إعلامية شهيرة وابنة أحد أقطاب الإعلام، أبوها كمال اليحياوي، بقتلها. هذا الكاتب الذي ذاع صيته بفضل شبكة علاقات زوجته، كما أنه سينمائي معروف بفضل عشيقته هند المونديال اما «ملهمي» رواياته ومسلسلاته التلفزيونية التي يوقعها باسمه فهم «فئران القبو» في بيته.
قد يظن القارئ ان كمال يتنذل ويتباهى بعشيقاته، إلا أنه في الكثير من الاحيان ينتهي كضحية أو «كبش فداء». ففي فصل من فصول الرواية لا يتحدث عن حبه لناديا بل عن تملك هذه له ، فهو «كبش» «ناديا» التي «لم تخلق لغير العمل» وظنت انها امتلكته لانها تزوجته لدرجة انه عندما يذهب الى محل الغسيل تقول له الفتاة هناك «ألن تأخذ ملابس مدام ناديا معك ايضاً؟»
«حياة» المرأة المسيطرة الثانية التي «خلقها» كمال كما اراد «لم تكن مجرد إمرأة جميلة بل حالة من «التهور الالهي»، حياة صاحبة «تاتو الفراشة» هي من علمته وضع البابيون، كانت تديره مثل الدمية وهو احب هذا النوع من السيطرة، فكان يشعر معها بالتوازن لان «الفراشة التي تزين رقبتي من الأمام تزين رقبتها من الخلف».
«هند» المونديال «العاهرة» مدخل كمال الى عالم السينما، الا انها مع كمال كانت تنتزع عنها مهنتها تهتم بأظافرها وهو سبب يدفع كمال الى التفكير بها فيما هو يمارس رجولته معها التي سرقتها منه ناديا وحياة.
وعلى الرغم من ان كمال شخصية عامة الا انه يشعر بالوحدة ولا يثق بأحد غير «ايفو» اليهودي الذي قتل كمال قطته ويكتب له رسائل وهنا يشير الكاتب الى طبيعة العلاقة بين العرب المسلمين والعرب اليهود فإيفو المحامي مولع بالطب والتطبب لانه يعلم انهم سيتركونه «يموت ككلب ان سقط مريضاً» فهو رآهم «كيف يتخلون عن بعضهم» فيما «حسن» العشيق السري للأم ناديا وابنتها سارة ينتظر الفرصة للانقضاض وتصفية حساباته مع الجميع.
تحاكي الرواية المجتمع الخفي في العالم العربي والعلاقات المشبوهة والسرية، واستخدام مخبرين وقاتلين مأجورين للقضاء على الكتاب والمفكرين من قبل اصحاب المال والسلطة ليحافظوا على صورتهم و»بريستيجهم» وفي «النذل» نرى «بوخا» الذي لم يفلت منه أحد وحسم مصائر الجميع، فهو ينفذ اوامر من يدفع له أكثر ويظن انه بذلك سيملك القوة والسلطة.
فصول «النذل» القصيرة هو التجديد بحد ذاته، فهي رواية مشوقة تقطع الانفاس وأقرب إلى ما يسمى بالواقعية القذرة التي تروي كيف تصنع البشاعة والعنف وينبت الشر، ينقلك بها الرياحي من مفاجأة الى اخرى ومن حادثة الى أخرى، فيشدك بأسلوبه السردي المغامر القائم على المحافظة على التشويق وهنا تكمن قوة الرواية ، فالقارىء الذي تغفل عينه على سطر ضاع .
الكاتب يعكس في روايته قذارة المجتمع الطبقيّ الذي لا يمكن أن يتعايش إلا في صراع للوصول الى غاياته عبر الابتزاز والرشاوى والخيانة حيث «العطش للشر هو مكيال الحسنات». والتوكيد على الصراع لا يقطع بهوية يسارية للكاتب بقدر ما يشي بهواجسه المتواصلة عن حال الجماعات وتوزعها بين فقراء واغنياء ومهمشين.
يأخذك الرياحي في روايته إلى شوارع تونس في وصف دقيق لخباياها وحاناتها ومسارحها، حتى يخيل للقارئ انه تونسي ويجول في رحاب بلده ومعالمها.
في الفصول الاخيرة من الرواية نرى كمال في مشفى السجن الذي اقتيد اليه بعد اتهام ناديا له بقتل ابنتها سارة، يكتب رسائل ويوميات، فماذا كتب كمال في «هلوساته» التي سببتها له حبات انتقام ناديا في «الحليب صباحاً وفي كأس النبيذ مساء»؟ ولماذا تلاحق ناديا «ايفو»؟
كل هذه الاجوبة وأكثر تجدونها في خيال الصفحات 190 من رواية «عشيقات النذل» لكمال الرياحي. هذا الكاتب التونسي الشاب الذي وعلى الرغم من ان ما يهم هو اصطياد القراء لا الجوائز الا ان «عشيقات النذل» يليق بها التمايل على قوائم الجوائز العالمية.
يشار إلى أن الرياحي روائي وصحافي تونسي، فاز في مسابقة «بيروت 39» التي نظمتها مؤسسة «هاي فيستيفال» Hay Festival عام 2009، له مجموعتان قصصيتان، وكتب نقدية، أبرزها: «حركة السرد الروائي ومناخاته»، «نصر حامد أبو زيد: التفكير في وجه التكفير». كذلك له ثلاث روايات: «المشرط» التي حصلت على جائزة الكومار الذهبي لأحسن رواية تونسية عام 2007، و»الغوريلا» ترجمت أعماله إلى الفرنسية والإيطالية والإنكليزية والبرتغالية والعبرية.
الأخبار اللبنانية