أصلُ الخليقة


*محمد منصور



خاص ( ثقافات )



كَمَنْ جاءَ منْ عالمِ الموتِ، جئتُ أجرُّ خطايَ، ثيابي ممزقةٌ، ودماغي تعربدُ فيه الهواجسُ، عينايَ مطفأتانِ، وروحي مشققةٌ، وانحناءةُ ظهري تدلُّ على أنني لم أر الشمسَ منذُ زمانٍ بعيدْ..
……
أسيرُ فأشعرُ أنَّ الذينَ يسيرونَ حولي يجرُّونَ مثلي خطاهم، وحينَ أحدِّقُ فيهم أرى أنَّ أعينَهُم-مثلُ عينيَّ- مطفأةٌ، والثيابَ التي فوق أجسادِهِمْ -مثلُ ثوبي- ممزقةٌ..
كانَ ضوءُ النهارِ أشدَّ سوادًا، وشمسُ الضحى تقذفُ الأرضَ بالنارِ حينًا، وحينًا -بلا سببٍ منطقيٍّ- تثورُ فتردِمُنَا بالجليدْ..
…….
معَ الوقتِ تُهْنَا عنِ الوقتِ، لا أحدٌ يسألُ الآخرينَ: كَمِ الساعةُ الآنَ؟
لا أحدٌ يتباطأُ أو يسرعُ الخطوَ، لا فرقَ في السيرِ ما بينَ حرٍّ وعبدٍ، ولا بينَ طاغيةٍ وشهيدْ!
…….
وحينَ ندقِّقُ في الأفقِ، نلمحُ قابيلَ يقتلُ هابيلَ، والفُلْكَ يطفو على جثثٍ لم تجدْ جبلا، والحريقَ يمزقُ أطفالَ سادومَ، واللهُ يمسكُ إبليسَ مِنْ قدَمَيْهِ، ويُلقي به في الجحيمِ، ويزأرُ في ثقةٍ:
– يا عبادي اطمئنوا، ولا تحسبوا أنَّ أيَّ قديمٍ قديمٌ، وأيَّ جديدٍ جديدْ!
……..
وبعدَ اكتمالِ الحكايةِ، أو بعدَ أنْ يملأَ الأفقَ غيمٌ كثيفٌ، ويصبحَ لونُ السماواتِ أحمرَ، نعرفُ أنَّ الدماءَ ستهطلُ بعدَ قليلٍ، ويصبحُ منسوبُهَا فوقَ سطحِ الصراخِ، وتهجرُ كلُّ العصافيرِ أوكارَهَا، والهواءَ الذي اسودَّ من خوفِنَا، ملأته الشقوقُ لتهربَ منها العفاريتُ خائفةً، والنجومَ هَوَتْ كالحجارةِ فوقَ الرؤوسِ، ولا شيءَ، في ظلِّ هذا العذابِ، يدلُّ على أيِّ شيءٍ.. 
فلا أحدٌ يتعرّفُ في السائرينَ على أمِّهِ وأبيهِ وصاحِبِهِ وبنيهِ،
وما من ملاكٍ رأيناهُ، في ظلِّ هذا العذابِ، لنسألَهُ عن مصائِرِنَا
كلنا يتساءلُ، في نفسِهِ: هل سأصبحُ -بعدَ الحسابِ- شقيًّا، فأهلَكُ، 
أم أنني سوفَ أعرفُ -بعدَ الحسابِ- حقيقةَ أني سعيدْ!
…….
ولكنني كنتُ أشعرُ -وحدي- بأنَّ الذي كانَ مِنْ قبلُ ليس سوى فكرةٍ روادَتْ شاعرًا ماتَ قبلَ اكتمالِ القصيدةِ، فاتَّشَحَتْ بالسوادِ -حدادًا عليهِ- جميعُ المعاني، وظلَّتْ مؤرجحةً بينَ سقفِ الخيالِ وأرضِ الحقيقةِ.. 
أمَّا الحروفُ فذابَتْ -مع الوقتِ- كالثلجِ في عقلِ شاعرِنَا المتوفَّى، وسالَتْ لتُكْمِلَ دورَتَها في شرايينِ أسطورةٍ تتخلَّقُ في رَحِمِ الكونِ.. 
حيثُ -معَ الوقتِ- سوف يكونُ على الأرضِ جَمْعٌ مِنَ البشرِ الطيِّبينَ، وآخرُ من صانعي البشرِ السيئينَ.. 
وقبلَ النهايةِ -تلكَ التي لن تجيءَ- سنعلمُ -علمَ اليقينِ- حقيقةَ أنَّ جميعَ الخلائقِ دودٌ تكاثَرَ مِنْ دودةٍ هجَرَتْ ظلمةَ القبرِ بحثًا عَنِ النورِ أو عَنْ مكانٍ جديدٍ تُربِّي سلالَتَهَا فيهِ، لكنها لم تكن تتخيَّلُ أنَّ الخروجَ مِنَ القبرِ سوفَ يكونُ -مَعَ الوقتِ- أوَّلَ مفردةٍ في كتابِ الخليقةْ..
……..
… 
معَ الوقتِ سوفَ يصيرُ الصغارُ كبارًا، ويصبحُ في الأرضِ دودٌ فقيرٌ ودودٌ غنيٌّ، ودودٌ ضعيفٌ، وآخرُ أقوى، وبعضٌ يُقلِّدُ ما يفعلُ الآخرونَ، وبعضٌ يُفضِّلُ أن لا يسيرَ معَ الآخرينَ، فيرفعُ -في ثقةٍ- فأسَ أوهامِهِ كي يشقَّ طَرِيقَةْ..
ولكنهم سوف لن يسمعوا للذي سيجيءُ على هيئةِ الشعراءِ يقولُ:
الغوايةُ مصيدةُ الهاربينَ مِنَ الموتِ 
والناسُ أشباهُ آلهةٍ في الخيالِ، 
وصُنَّاعُ آلهةٍ في الحقيقةْ!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *