*همسات وعدسة: زياد جيوسي
خاص ( ثقافات )
في منتدى الرواد الكبار في عمّان عاصمة الأردن، وبحضور كبير رغم ارتفاع درجات الحرارة، كان حفل مناقشة وإشهار رواية “مصائر” للكاتب والروائي الفلسطيني ربعي المدهون، وهذه الرواية هي الثانية في مشروعه الروائي بعد روايته “السيدة من تل أبيب”، من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت ومكتبة كل شيء/ حيفا، وقد عرّف عليها الكاتب بقوله في بداية الكتاب: “هذه رواية عن فلسطينيين بقوا في وطنهم بعد حرب 1948، وأصبحوا بحكم واقع جديد نشأ، مواطنين في (دولة إسرائيل) ويحملون (جنسيتها)، في عملية ظلم تاريخية نتج عنها (انتماء) مزدوج، غريب ومتناقض لا مثيل له. وهي رواية عن آخرين أيضاً، هاجروا تحت وطأة الحرب ويحاولون العودة بطرق فردية”.
تحت اسم الرواية “مصائر” أضاف المدهون عبارة “كونشرتو الهولوكست والنكبة”، وهذا حمل أكثر من فكرة نلمسها في الرواية، فهو قام بتركيب الرواية وتوليفها على شكل قالب الكونشرتو الموسيقي، مكون من أربع حركات، ولكل حركة بطلان لهما فضائهما الخاص ليتحولا إلى شخوص ثانوية، ويبرز بطلان في الحركة الثانية، وتتكرر الحكاية نفسها في الحركة الثالثة، وفي الحكاية الرابعة تبدأ الحكايات الأربعة بالتكامل حول “أسئلة الرواية حول الهولكوست والعودة”، متعمداً من خلال العنوان استفزاز القارئ من البداية بكلمتي الهولوكست والنكبة، وهذا ما تم فعلاً في مناقشة الجمهور للرواية، فبطل من أبطال الرواية يزور متحف الهولوكست ويقارن بين ضحايا فلسطين وغزة بيد القوات (الإسرائيلية) وبين ضحايا اليهود بيد النازية الألمانية، متخيلاً أنه سيكون هناك ذات يوم متحف للضحايا الفلسطينيين بالمقابل، مشيرا أن الفلسطينيين لم يقوموا بالهولوكست حتى يدفعوا الثمن أما صمت العالم.
تحدث الكاتب عن الرواية وإعدادها والتي استغرقت من وقته أربع سنوات، زار فيها فلسطين أربع مرات من أجل القيام بجولات في الأمكنة التي وردت في الرواية، واستمع للكثير من الناس وأجرى حوارات وعقد لقاءات وأجرى أبحاثاً كي تكون الرواية دقيقة فيما ترويه، فهو- أي الكاتب- مهجر من فلسطين، فهو ولد في المجدل/ عسقلان في العام 1945 وهاجر مع عائلته طفلاً عام النكبة 1948، ونشأ وترعرع في مخيم خانيونس في غزة ويعمل، في بريطانيا التي حمل جنسيتها، ولم يعش بالمدن الفلسطينية الست التي جرت فيها أحداث الرواية، فكانت الجولات الميدانية ليتطابق المكتوب مع المشاهدة، وهذا ما نلمسه بوضوح حين يتحدث الكاتب عن عدد البيوت (1125) بيتاً التي بقيت سليمة في عكا بعد انتهاء حرب النكبة 1948، وكيف استولى العدو الصهيوني على 85% من هذه البيوت ضمن قانون أملاك غائبين وسلمتها لشركات “عميدار” وشركة تطوير عكا الصهيونية، وتحدث بوصف دقيق لبعض من معالم المدينة وبيوتاتها القديمة فهي بعض من ذاكرة المكان، وهذا أيضاً تكرر في المدن والبلدات الأخرى كمجدل عسقلان ويافا.
حفلت الرواية بشخصيات ثانوية كل منها تروي حكاية، وبعض منها يروي التمييز ضد المواطنين الفلسطينيين العرب من قبل الشرطة والحكومة الإسرائيلية وترك النساء ضحايا إهمال الدولة التي أجبرتهم على حمل جنسيتها، والتقاليد البالية في مجتمعاتهم المهملة والمنغلقة، مثل حكاية آلاء الحيفاوية وانتصار طنوس ونسرين الشاويش وفريال البدوية وعبير اللداوية وصفاء وسهير وغيرها، كما تحدثت الرواية عن العنصرية التي تمارسها وزارة الداخلية الإسرائيلية والعديد من الممارسات التي تمارس بحق كل من هو ليس بيهودي.
وهناك شخصيات ما بين رئيسة وثانوية عبرت عن الانتماء للوطن مثل إيفانا الأرمنية التي أوصت أن يوضع بعض من رماد جثتها في إناء يوضع في بيت جدها في عكا، وفاطمة العكاوية الملقبة بـ”ست معارف” والتي “تحفظ ملامح عكا وتفاصيلها أكثر من كتب التاريخ والجغرافيا”، والتي تتطوع كمرشدة شعبية لتعريف الزوار والسائحين للتعريف على المدينة رافعة شعارها: “بنعطيهم معلومات صحيحة ابّلاش.. أحسن ما يشتروا الكذب من اليهود ابمصاري”، ووليد الدهمان وزوجته جولي ابنة إيفانا الذين تنقلب أفكارهما من زوار لفلسطين إلى عشق لها حتى فكّرا بالإقامة فيها، وجنين وباسم المكافحان من أجل إنقاذ زواجهما أمام قوانين إسرائيلية ظالمة وعنصرية ومتعصبة ضد العرب.
الرواية كانت متميزة بأسلوبها وبلغتها الجميلة، وبممازجة اللهجات العامية حين الحاجة الملحة (بين أقواس) وبين لغة الرواية، وقد لجأ الكاتب للرمزية والتخيل كثيراً مما يثير مخيلة القارئ ودفعه لمعاودة القراءة لفقرات أو فصول، وكما أشار الناقد فيصل دراج في مداخلته للرواية في حفل الإشهار: “الرواية حفت بالغموض وكل رواية تخلو منه لا تكون رواية إن لم تدفع القارئ للتفكر والتأويل”، وهذا ما نلمسه بالعنوان “مصائر” وليس مصير، من دفع القارئ لتخيل أكثر من فكرة لمصير المنطقة قائمة على الاحتمالات المرتبطة بالوقائع والحكايات.
عرافة الندوة كانت للروائي الياس فركوح، وقدم الناقد د. فيصل دراج قراءة نقدية متميزة غطت الرواية بالكامل من كافة الزوايا مثل الأسلوب واللغة والتركيب والشخصيات والفكرة، وكان تفاعل الحضور ملموساً بالحوار مع الكاتب.
رواية تستحق القراءة والاهتمام رغم ما يمكن أن يختلف القارئ مع الكاتب أو يتفق معه ببعض من المسائل، إلا أنها حقيقة تحمل الكثير من الأفكار عبر صفحات الرواية، وهذا الخلاف أو الاتفاق يبشر بمستقبل للرواية ويؤكد أن ربعي المدهون بدأ يعتلي القمة بين الروائيين.