*آمال الديب
خاص ( ثقافات )
في إدارة الرقابة بميناء القاهرة الجوي التابعة لوزارة الداخلية جلست في شبه تحقيق مصغر.
: روايتك بتتكلم عن إيه؟
: تجربة إجهاض.. وموازاة دا بتجربة إجهاض ثورة يناير..
شعرت أنني أخطأت وورَّطت نفسي ورطة ليس من السهل الخروج منها، ووددت لو أنني أستطيع ابتلاع لساني في تلك اللحظة، أو فعل أي شيء يمحو الجملة التي انقذفت لتوها، ولكن هيهات!
بصوت حاسم وساخر في آن أخرجني من لومي لذاتي: كل سنة وانتي طيبة!
صمت لأقل من ثلاث ثوان، ثم قال: طلَّعي الجزء الخاص بالثورة واديه للأستاذة..
لم أكن أستطيع إنقاذ ما أتلفته بسحبة لساني، وظللت أؤنِّب نفسي على اندفاعي المتكرر وعدم التفكير قبل النطق بأي كلمة..
تذكرت أمي رحمها الله حين كانت تردد كلما حكيت لها موقفاً يخصني، بأنني متهورة ومندفعة.. وكأن لساني ذا مدفع رشاش لا يأخذ هدنة بين قذائفه..
انتشلني هذا الصوت المتحفِّز ضدي من حفنة الأفكار الملغومة..
: تروحي مكتب الرقابة اللي ف شارع طلعت حرب.. ورا حلواني العبد..
: طب ليه؟ دا انا باقول لحضرتك ساعدني.. وانا أصلا جاية لك باهرب من المشوار..
: طب مانا كدة باساعدك..
: الرواية دي مطبوعة في الشارقة.. وحضرتك عارف ان أمير الشارقة تحديداً بيحب مصر أد إيه.. ومش هيطبعوا حاجة ضد مصر..
دلوقتي انا عشان اقول رأيي لازم اقراها م الجلدة للجلدة.. هتقعدي لحد ما اقراها واخلصها؟
هما هناك هتروحي لهم هيوقعوا لك وانتي واقفة..
: أنا قلت لحضرتك ان ظروفي فعلاً ماتسمحش بكل المشاوير دي.. أرجوك اعملها لي خدمة.. أنا مش هاضر بلدي بكتابتي يعني..
ورحت أمارس ضعف الأنثى الذي أتقنه جيداً.. وبصوت مختنق بالدموع قلت له..
: أرجوك.. أنا باقول لك ساعدني..
كنت أجتهد في إخفاء رغبة حقيقية في لكمه، أو حتى على الأقل صفعه على وجهه، فقد أرهقني عصبياً أكثر مما ينبغي.. حين شعرت أنني أكاد أتهور قلت له: من فضلك اعمل أي حاجة..
وأمام إلحاحي ناولني نسخة الرواية مشيراً إلى إحدى السيدتين بالغرفة.. يا أستاذة طب شوفي لها انتي ينفع؟ ينفع؟ فقالت له بحياد وبرود: “هاقول إيه بعد كلامك يا ريس!”.
تركت المكتب وخرجت.. قلت في نفسي ربما استطاعت تلك السيدة التي لمحت في عينيها تعاطفاً واضحاً معي أن تثنيه عن قراره المتحفِّز..
وقفت أمام الباب لدقائق.. أفكاري مبعثرة لا أستطيع اتخاذ أي قرار.. فقط أردت أن أترك له فرصة يعيد فيها تفكيره.. خامرني شعور بأن الأمر برمَّته سينتهي اليوم بعد شيء من الإلحاح.. وربما بقليل من المواءمة..
استجمعت شجاعتي العصبية ودققت الباب دقات رتيبة متردِّدة.. دفعته برفق ودخلت.. وقفت أمامه كتمثال من الخشب المجوف.. لا تعبيرات محددة على وجهي.. قال بهدوء شديد: أنا هاقترح عليكي حل وسط.. أنا هاتصل بالمديرة واقول لها أفرج عن الرواية على مسؤوليتك.. إن وافقت هامشي لك الموضوع..
لم يكن لديَّ خيار آخر.. فهززت رأسي بالموافقة..
أجرى اتصاله على مسمعي بعد أن قال لي: اتفضلي اقعدي..
جلست على أقرب مقعد للباب.. سمعته يشرح لها ما فهمه من الرواية، وكيف أن الصفحات الأولى تحكي عن حمل سفاح ومراحل الإجهاض.. سيبك من دا كله.. في الفصل السابع واحد بيحكي.. وبيقول إن عربية الترحيلات خدتهم وركب معاهم شيخ من الأزهر قال لهم أنا هاضمنكم وهتروَّحوا بيوتكم.. وبعدين نزل في السكة.. ورحَّلوهم على سجن طرة.. وفي الصفحة اللي بعدها على طول بتحكي عن الشرطة وانها حدفت قنابل مسيلة للدموع على المواطنين.. أيوة.. لأ مش تصريح أوي يعني.. تلميحات كدة.. عادي؟! طب تمام يا ست الريسة.. تسلمي.. متشكرين جداً…
أغلق الخط وأمسك بالقلم مؤشراً على الإيصال بألا مانع من الإفراج عن الكتب.. طلب مني أن أعود إلى الجمرك لأستلم الكتب وأعطاني قصاصة ورقية بها رقم هاتفه إن صادفتني أي عرقلة.. هرولت كالمستغيث حتى وصلت إلى الجمرك في الشوط الرابع، والذي أمَّلت كثيراً أن يكون الأخير.. أسلمت الإيصال لمدير الجمرك الذي كنت قد استعنت به في حل المشكلة وكان في الحقيقة رائعاً في استقبالي وامتصاص ما بقي من غضبي بعد أن عدت من مكتب الرقابة في المرة الأولى..
انتهيت من إجراءات الجمرك.. 25 جنيهاً أرضية الجمرك دفعتها ثلاثين.. وثمانية وعشرين جنيهاً للضرائب دفعتها ثلاثين أيضاً، لا يهم.. المهم أنني استطعت أن أستنقذ النسخ من بين أيديهم.
بالتأكيد كان الندم يأكلني حين اكتشفت أن وزن الشحنة تسعة كيلوجرامات فقط، وأظن أن الوزن الخاص بي كان يسمح بذلك.. لكنني أعي جيداً ألا جدوى من أي ملامح لندم أو استياء.. حزمت أمري وعدت من حيث أتيت.
ترى أكان من الممكن لو أن صاحب الرواية لا يتقن الصد والرد.. أن تتم مصادرة روايته؟!
للحظات تمنيت لو أن ذلك بالفعل ما حدث.. على الأقل كنت سأضمن أن تكون هناك ضجَّة إعلامية على روايتي، وعشت حلم الفتاة الصغيرة وسلَّة البيض التي صارت مزرعة دجاج، ثم مزرعة خراف، ثم قصراً كبيراً ملحقاً به مجموعة مزارع ومصانع ألبان، وعصائر، ولحوم، ولم تُفِق المسكينة سوى حين دهمتها درَّاجة بخارية فاندلق البيض القابع بالسلة فافترش الأرض، حافراً قناة صغيرة لا يتشرَّبها الرصيف!