محمد الحمامصي
يضم هذا الكتاب “المرأة بين الفن والعشق والزواج” للدكتور نهاد صليحة والصادر عن دار العين ثماني اجتهادات منوعة لتآكل الظاهرة المسرحية في عدد من جوانبها، فبينما تركز الدراستان الأولى والثانية على وضعية المرأة في المسرح في ظل الثقافة الأبوية المهيمنة، وتفحصها من منظور نسوي في سياقها الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي منذ عشرينيات القرن العشرين وحتى الآن. وتتبع الدراسة الثالثة الأصول التاريخية لصيغة درامية / مسرحية اكتسبت شعبية كبيرة في مصر منذ الثمانينيات، وخاصة بين شباب المسرحيين، وهي المونودراما، كما ترصد أنواعها المختلفة وتجلياتها الحديثة في المسرح سواء عندنا أو في الغرب.
وفي الدراستين التاليتين تعمل د. نهاد صليحة على عملية التواصل في المسرح ما بين إنشاء العرض وتفسيره حيث يستحوذ على اهتمام البحث وتخضعه لتحليل مفصل، أما الدراسة السادسة فتسعى خلالها إلى فحص التوجهات الفكرية للكوميديا في المسرح العربي في ضوء عدد من المفاهيم النقدية الحديثة وخاصة مصطلح الكرنفالية الذي صكه الناقد الروسي ميخائيل باختين.
وفي جزئه الأخير ينتقل الكتاب إلى عمل المخرج في المسرح فيفحصه من خلال تجربتين مسرحيتين حديثتين إحداهما للراحل العظيم سعد أردش والأخرى للفنان الشاب صاحب الموهبة الكبيرة عمرو قابيل، ثم يتوقف في النهاية أمام ظاهرة تحول كاتب تلفزيوني مخضرم مثل أسامة عكاشة إلى المسرح فيقدم تحليلا لمسرحياته الأربع التي قدمت على خشبة المسرح.
تبدأ صليحة كتابها بقراءة وتحليل لمذكرات المسرحية والمطربة فاطمة سري ووقائع خصومتها مع محمد بك شعراوي (ابن هدى شعراوي)ـ في مصر في العشرينيات من القرن الماضي، حيث تزوج شعراوي من فاطمة سريا وأنجب منها ليلى التي لم يتم الاعتراف بها من قبل هدى شعراوي إلا بعد سنوات من التقاضي، فالسيدة فاطمة سري لم تخضع للابتزاز والارهاب والاغراء وناضلت حتى حصلت على الاعتراف بنسب ابنتها وبزواج محمد شعراوي منها.
تحقق د. نهاد المذكرات التي نشرت للمرة الأولى مسلسلة في ذروة خصومتها مع محمد شعراوي ووالدته هدى شعراوي في الفترة من 27 ـ 12 ـ 1926 و25 ـ 4 ـ 1927 في مجلة المسرح وأعاد المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية نشرها أخيرا، تقول د. نهاد “المذكرات كخطابات تكشف عن توزع الذات الكاتبة وتشتتها بين مجموعة من التناقضات العنيفة التي شكلت وضعية المرأة عامة، والممثلة خاصة في العشرينيات من القرن الماضي، وأنتجت صورتها عن ذاتها، وصورة المجتمع عنها، ففي المذكرات يقف العشق كنقيض للزواج، والأنثى كنقيض للأم، وحرية المرأة كنقيض لمكانتها المحترمة، والمقبول دينيا كنقيض للمقبول اجتماعيا، والعكس صحيح كما كان الحال في زواج هدى شعراوي الذي أيده المجتمع رغم أنه خالف الشرع الديني الذي ينص على ضرورة موافقة العروس على الزواج وعدم إرغامها عليه”.
وتخلص د. نهاد صليحة متساءلة “ترى هل حسمت هذه التناقضات في عالمنا العربي بعد مرور كل هذا الوقت؟”.
وتنتقد المؤلفة نظرة الثقافة العربية للجسد وترى أنها نظرة مليئة بالشك والريبة وذلك في الوقت الذي تعلي فيه شأن الكلمة، وأضافت أن هذه المشكلة برزت بوضوح في العقدين الأخيرين، وفرضت نفسها على الوعي بإلحاح مع تنامي التيار الديني المتطرف من ناحية، ومع الهيمنة المطردة لاقتصاديات السوق والقيم الاستهلاكية على المسرح من ناحية أخرى.
وتشير إلى انهيار مستوى الأداء المسرحي عموما بصورة لم يسبق لها مثيل، فلم يعد المؤدي “ممثلا أو ممثلة” يعني بتدريب صوته وجسده، أو تعميق ثقافته ووعيه أو تنمية ملكاته النفسية والشعورية وكلها أدوات عمله، وأصبح يكتفي بشعبيته ونجوميته المستمدة في العادة من ظهوره على شاشة التليفزيون بالدرجة الأولى أو السينما بالدرجة الثانية، ومما زاد الطين بله لجوء الممثلات إلى الابهار الحسي، واستعراض الجسد ودغدغة الحواس وإثارة الغرائز التي لا تنتمي إلى الفن بصلة عن طريق الملابس والحركات ونغمات الصوت التي لا تتسق مع الشخصية والأداء المسرحي وكأن الجمهور يأتي ليشاهدهن لا ليشاهد عرضا مسرحيا متكاملا، يتحول فيه جسد الممثل أو الممثلة إلى طاقة تعبيرية، وعنصر فني في تكوين جمالي.
وتقول د. نهاد إنه إذا كانت المرأة قد دخلت مجال المسرح كممثلة في بداياته في العالم العربي، وذلك على عكس التجربة الغربية فقد جاءت هذه الخطوة الايجابية تحمل ظلالا سلبية كثيفة لا زلنا نعاني منها حتى الآن وتتخلص هذه السلبيات في: أولا نوعية النساء اللاتي اقتحمن هذا المجال في البدايات كممثلات من حيث التوصيف الديني والثقافي والاقتصادي والاجتماعي، تذكر لنا روز اليوسف على سبيل المثال في كتابها الوحيد “ذكريات” أن الفرقة التي مثلت معها في أول أدوارها في مسرحية “عواطف البنين” كانت تضم ست ممثلات كلهن سوريات مسيحيات كما كانت روز اليوسف نفسها مغتربة وأمية ومعدمة حين عملت بالتمثل، وتولى عزيز عيد تعليمها كما فعل مع فاطمة رشدي من بعدها وكما فعل يعقوب صنوع مع ممثلتيه اليهوديتين.
ثانيا النظرة الأخلاقية المعادية للتمثيل عموما وللممثلة على وجه الخصوص.
ثالثا اقتصار دور المرأة في العملية المسرحية على التمثيل وحده دون الكتابة أو الاخراج مما جعل منها أداة طيعة، تدرب وتوظف بل وتستغل دون وعي منها في تكريس منظومة القيم الأبوية التي تكتبها كامرأة وتدينها كفنانة، وهي قيم منبثة في أغلبية النصوص التي تؤديها سواء كانت عربية أو غربية وتدعمها التقاليد المسرحية السائدة آنذاك، والتي كانت تكرس احترام النص لدرجة التقديس وطاعة المخرج/ الرجل دائما طاعة عمياء.
وترى د. نهاد أن موقف النظام والدولة والدين من الفنون عامة يمثل عنصرا في تشكيل الظرف التاريخي لعملية التلقي، ففي ضوء هذا الموقف قبولا أو رفضا، ترحيبا وتشجيعا، أو نفورا ومقاومة، يتحدد انتشار أو تقلص الظاهرة المسرحية عمليا وإعلاميا متمثلا في عدد الفرق والمسارح ونوعية جماهيرها وأعدادهم وانتشارها في الأقاليم أو تقوقعها في العاصمة وحجم الدعاية المتاح لها في النظام الاعلامي، إن التطرف الديني أو التوجه السلفي في مجتمع ما قد يفضي أحيانا إلى تحريم المسرح كما حدث إبان الحرب الأهلية وحكم كروميل والمتطهرين في إنجلترا في القرن السابع عشر، أو قد ينتهي إلى انصراف الجمهور عنه واقتصاره على فئة محدودة كما حدث أيضا في انجلترا بعد عودة الملكية 1660، وهو يصرف الآن في بلادنا العربية عددا لا يستهان به من الشباب المثقف عن المسرح، كما يحد من حرية الحركة الذهنية للمتلقي تحت وطأة سلطة الماضي والسلف، فتتحدد مسارات التفسير وتتقلص وقد تتحول إلى قوالب جامدة مسبقة.
وتلفت د. نهاد إلى أنه يمكن من قراءة التاريخ أن نتكهن بأحد أسباب هيمنة نمط كوميديا التنفيس على المسرح العربي “ففي أوروبا في العصور الوسطى اعتمدت الفكاهة عامة بصورة شبه كاملة على كسر التابوهات الأخلاقية بهدف التنفيس عن الغرائز والطاقات العدوانية المكبوتة وترى بيردي أن السبب في ذلك كان سيادة نسق عقائدي صارم وتسلطه على شتى مناحي الحياة، ولما كانت مصر والعالم العربي قد عانت في تاريخها الحديث ليس فقط من تسلط الحاكم أو المستعر بل أيضا من هيمنة الأنسقة العقائدية الجامدة التي تضع قيمة الطاعة فوق قيمة الحوار، كانت من الطبيعي أن تسعى الكوميديا إلى التنفيس. والآن ونحن نشهد ما يشبه الردة الفكرية في عالمنا العربي أو في بعض بلدانه أي تقلص المد التنويري وتكريس الفكر السلفي وذلك رغم وجود بعض مظاهر التقدم والتحرر الشكلي، ربما فسر لنا ذلك اعتماد الغالبية العظمى من الكوميديات التي تشهدها مسارح العالم الكسر المؤقت للتابوهات بهدف التنفيس دون أن تجرؤ على مساءلة النظام المعرفي الأخلاقي السائد مساءلة حقيقية، كما فعلت العديد من الكوميديات التقدمية في فترة المد الثوري في العالم العربي،
إننا في أشد الحاجة الآن إلى توظيف الفكاهة لمساءلة القيم والخطاب السلفي السائد وإفساح المجال للتغيير وإلا تحول الضحك في مسارنا إلى قهقهات جوفاء تصدر عن جماجم فارغة مثل جمجمة المأسوف عليه يوريك التي وجدها “هاملت” محشوة بتراب العدم.
ميدل ايست أونلاين