الثقافة والبقالة


رجب سعد السيد


ماذا يفعلُ تاجرُ البقالةِ إن فوجئ بركود بعض أصناف بضاعته؟ إنه لا يفكرُ في إغلاق الدكان، ولا يتردد في الأخذ بسياسات ترويج بديلة يختزنها في صندوق خبراته، فيجري تخفيضات على هامش ربح أكثر السلع كساداً، ويعلن عن ذلك بوضوح، فإن عجز هذا الأسلوب في تحقيقى الهدف المنشود، تنازل عن مزيد من هامش الربح، وأشرك منافذ أخرى في توزيع سلعه، حتى لا يداهمه وقت انتهاء صلاحية السلع، فيخسر مع الربح المنتظر القيمة الأساسية للبضاعة.

وهذه الإجراءات، وغيرها، متسقة تماماً مع تجارة البقالة، وإن لم يقم بها (البقال) عُدَّ خائباً فاشلاً، فعملُه (البيع)، وهدفُه (الربح). ونظُنُّ أنه يفكر في البيع والربح قبل أن يفكر في أنه يوصل الغذاء لطالبيه.
فإذا بارحنا دكانة البقالة، المهمة، إلى دكانة أخرى لا تقل عنها أهمية، هي دكانة الثقافة، وتتفق الدكانتان في أنهما مصدر (غذاء)، مادي في الأولى، ومعنوي في الثانية، وهذا الاختلاف في طبيعة ما تقدمانه من غذاء يجعل البقال يضل إن هو فكر في سلع بقالته في غير أنها يجب أن تؤكل في زمن محدد، ويجعل (بائع) الثقافة يضل إن هو فكر كما يفكر البقال.
ولا يُنتظر من دكان الثقافة أن يورِّدَ لصاحب رأس المال، أو لوزارة الخزانة أوراقاً يراجعها الجهاز المركزي للمحاسبات ليوازن بين (المنصرف) و(الوارد)، لأن هذا الجهاز لا يعرف غير الأرقام، اللهم إلاَّ إن كان قد كوَّن إدارات جديدة متخصصة في النقد الحداثي، وتاريخ الفن التشكيلي، والترجمة، وجماليات القصيدة العربية المعاصرة، على سبيل المثال.
لا يعني ذلك أن الثقافة بلا مردود، فأنت تنفق من أجل عائد غير محسوس، فالجمهور الخارج من الكونسير، مثلاً، لا يطرأ عليه زيادة في وزن الجسم، ولكن المؤكد أن تواتر الاختلاف إلى الكونسير يؤثر في الجهاز العصبي الآدمي بما ينتهي إلى رهافة الحس ورُقِيِّ السلوك.
كذلك الأمر بالنسبة لـ (سلع) ثقافية أخرى، كالمطبوعة الورقية، نشرةً أو مجلةً أو كتاباً. فأنت تطرح سلعتك المطبوعة دون أن تمتلك أدوات مراقبة سيرها في المجتمع، ولا وسائل ترصد ما إذا كانت قد قُرِأتْ أو أُهمِلتْ، بل إن قارئ المطبوعة قد لا يكون جاء إلى الحياة وقت طرحها بالسوق.
ولكن المؤكد أن ذلك القارئ (المجهول) (موجود). وقد حدث، عقب صدور كتابي “مسائل بيئية” في سلسلة “مكتبة الأسرة”، عام 1999، أن فوجئتُ باتصال هاتفي من فتىً يعيش بالمنصورة، أخبرني أنه حصل على رقم هاتفي من دليل التليفونات، وكان حريصاً على أن ينقل لي تأثره بالكتاب، لدرجة أنه طلب من أبيه أن يشترى له مجهراً بسيطاً، وأعدت له أمه قطعة قماش على هيئة شبكة نزل بها إلى النيل في قارب، وتحصل على عينات من الكائنات المجهرية التي يحتوي الكتاب على فصل عنها، وأنه قد رآها بعينه تحت المجهر. ذلكم هو (المستهلك) الذي تراهن عليه دكاكين الثقافة.
إن الاستجابة للسلع الثقافية تخضع لمنحنى التوزيع الطبيعي (شكل الجرس)، حيث تكون الاستجابة شبه منعدمة عند عدد قليل جداً من الناس، وتكون في أبهى صورة لها عند عدد قليل مماثل، بينما تكون متراوحة، بين زيادة ونقصان، عند الكتلة العظمى من المستهلكين.
فإن طبقنا هذا على شعب تعداده 90 مليوناً، لا يأبه بالثقافة خمسة ملايين منهم، ويحتفي أشد الاحتفاء بها خمسة ملايين آخرون، بينما يتأثر بها بقدر متوسط 80 مليوناً، فإن أي إنفاق على توفير هذه السلع تكون جدواه الاقتصادية فائقة، فمن بين الملايين الخمسة المقبلين على الثقافة سيتكون رأي عام حصيف، وسيبرز من بينهم قادة الرأي والفكر والمبدعون في مختلف المجالات.
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *