محمد العامري*
ما إن تتفحص الجسد الثقافي العربي ستكتشف حجم الادعاء والبؤس الذي يعاني منه «المثقف» (والهلالان هنا لإشكالية التسمية). فثمة استسهال في استخدام التعبير مرده غياب الفعل النقدي الجاد والشجاع تجاه ما يُرتكب من «جرائم» بحجة الانفتاح والتواصل مع الآخر.
والسؤال هنا: كيف تتواصل مع شحص احتلّ بيتك بغير وجه حق؟ هل المطلوب منك أن تشاركه مائدة بيتك في بيتك!
والغريب أن مجموعة من المثقفين الإنجليز قد وقّعوا عريضة يطالبون فيها بوقف العلاقات الثقافية مع «إسرائيل» نظراً لسياستها الاستعمارية في فلسطين، وأسموا العريضة: «عريضة المئة». وفي المقابل نجد مجموعة من المثقفين العرب يتهافتون -عبر مبررات غير منطقية- لإضفاء شرعيةٍ ما على فكرة الاحتلال الإسرائيلي الذي يعدّ آخر احتلال في العالم.
فهناك أجانب كثر رافضون للاحتلال، مثل المخرجَين كين لوتش ومايك لي، والموسيقي روجرواترز (مؤسس فرقة «بينك فلويد»)، والروائي هاري كنزرو الذي شارك في الحملة العالمية ضد جرائم الصهيونية. مقابل ذلك يقيم شاعر عراقي يدعى صلاح الحمداني أمسية شعرية بالاشتراك مع الشاعر الإسرائيلي روني سوميك، وهناك من انهالوا على مقرات الملحقين الثقافيين الاسرائيليين، على أمل حصد أموال والاعتراف بهم كفنانين بحجة الانفتاح، ولم يتوقف بعض الفنانين عند ذلك، بل جرت لقاءات بفنانين إسرائيليين في احتفاليات ثقافية في تركيا عبر معرض عن الفن العربي والإسلامي.
البهلوان الثقافي يستطيع أن يكون محارباً خائناً، ويستطيع أن يكون ثعلبياً في تلوناته، لكنه لن يخدع المثقف الحقيقي الذي يرى الحقيقة من خلف غرابيل الوهم.
والقائمة تطول في هذا المضمار؛ من الكاتب المصري علي سالم إلى العراقي المقيم في ألمانيا عبد القادر الجنابي، وهناك كثيرون يختبئون خلف خيباتهم الواهمة.
إنّ هؤلاء يحققون ما ذهب إليه الاستشراق الكولونيالي في إسهاماته المضلّلة لصورة العربي في أدبيات الاستشراق، فالعربي فيها هو الكاذب والقاصر معرفياً والخائن لوطنه والمرتشي، أيْ كل الصفات الشائنة التي أصبحت جزءاً من ثقافة الغرب تجاه الشعوب العربية.
فنحن بالنسبة للغرب شعوبٌ هرمة في تفكيرها وفتية في تكوناتها. إن ما يدهش حقاً أنّ العربي يتحرك عبر منظومة تخص مجتمات عربية ينتمي إليها كجزء من الوهم القبلي في مسألة تبني كثير من القيم التي لم تشكل لدى الآخر سوى جزء من تسطيح الإنسان وعفويته في التفكير والتصرف تجاه قضاياه الكبرى، كالفزعة مثلاً، و»أنا وابن عمي على الغريب»، وبقية المنظومة الأقرب الى «السوبر مان» العربي، لكن من ورق في الجانب الإجرائي!
لم يدرك هؤلاء البهلوانات أنهم ما يزالون يمكثون في مرحلة ما بعد الكولونيالية بالنسبة للآخر، فمن يتحرك في تلك المرحلة لا يعوَّل عليه كونه في الأصل كائناً غير مستقِل في تفكيره وفي مخياله أيضاً.
فالمثقف الحقيقي ينبذ كل أشكال الاحتلال ومركباته، بصرف النظر عن طبيعة المحتل، كون المثقف يؤمن بالتنوع وقبول الآخر من خلال حوار إنساني بعيداً عن أي فكرة احتلالية، ومَن يذهب إلى خلاف ذلك هو جزء من ماكينة الاحتلال عبر وسائط أشد وطأة من البندقية والسجون.
ولا بدّ هنا من استذكار عدد من الكتّاب المهمّين من الذين يحملون «نوبل» في تاريخهم الإبداعي وكانوا الأكثر شراسة بالتنديد بالاحتلال ومركباته غير الإنسانية مثل: جون ماري لوكليزيو، وجون جينيه، وجوزييه ساراماغو، وغونتر غراس الذي نَظَمَ قصيدة بعنوان «ما ينبغي قوله» أعلن فيها أن سياسة «إسرائيل» تمثل تهديداً للسلام العالمي، ووصف «إسرائيل» بأنها خارج الرقابة. وهناك مجالس بلدية في أوروبا تقاطع «إسرائيل»، وأكاديميون بريطانيون يقاطعونها أيضاً، ومنهم البروفسور اليهودي ستيفن روز وزوجته هيلاري.
إن سوريالية المثقف تتحرك ضمن منظومة مصالح ليس لها علاقة بالحرية، ولكنهم يأخذون من صفات الحرية لتبرير خيباتهم المتتالية. والذي أدهشنا هو قبول الروائي الإلباني إسماعيل كادريه جائزةً يمنحها المحتل هي «جائزة أورشليم». والغريب أن اللجنة التي منحته الجائزة تشير في تقريرها إلى تميز كادريه بالتعبير عن الحرية الإنسانية، فكيف لغير المؤمن بالحرية أن ح جائزة باسمها؟!
وقد تورط العالم العربي بالتغزل بكادريه عبر رواياته «جنرال الجيش الميت»، و»الهرم» و»العرس» و»العالم السيئ». والمعلوم أن جائزة أورشليم جزء خطير من منظومة تهويد القدس ومحو تاريخها الحقيقي.
وهناك من تغزلوا أيضاً بميلان كونديرا الذي قبل هذه الجائزة سابقاً، وكذلك ماريو فارغاس، والإسباني أنطونيو مولينا وراسل.
والسؤال هنا هو عن تنطعات المؤسسات الثقافية العربية التي تدّعي مقاومة تهويد القدس. فلماذا لا تقوم هذه المؤسسات بإطلاق جائزة عالمية باسم القدس، وبقيمة تليق بالقدس كجزء من سياسة مقاومة محو المدينة المقدسة.
لكننا ما نزال نكتفي بمجموعة من الأفعال الثقافية الكرنفالية والتورط بآلاف المبادرات البائسة إلى جانب التشكّي من قلة الميزانيات. إن الأموال العربية لَقادرة على إنشاء جائزة بقيمة نوبل.
كل هذا البؤس يتجذر أمام أعيننا وأعين مؤسساتنا العربية من دون أي مبادرة أو ردة فعل. فهل وصل المثقف الرجراج في العالم العربي إلى أن يهز الماء كي ترتبك الصورة لدى الناس؟! إن الصورة واضحة تماماً، فهناك من المثقفين من يبدو كائناً هلامياً يتشكل تبعاً لما يذهب إليه «سيده الثقافي»، لأنه عبد لكل المراحل، وحربائي في تصريحاته، معولاً على جهل الناس، وهذا التعويل وهْم يكتنف «البهلوان الثقافي».
لقد اختبأ هؤلاء بعد موجات التغيير في العالم العربي، التغيير بصفته تبدلات ربما تكون سلبية أو إيجابية.. ليست المشكلة هنا، بل المشكلة أن الهلاميين يَظهرون من أوائل الناس الذين يدعون إلى العقلانية والحوار بينما هم في حقيقة الأمر بعيدون كل البعد عن ذلك. وهذا المنطق جزء أساسي من أفعال المواربة التي يتقنونها، لعجزهم البائن عن أي فعل حقيقي في الأداء الثقافي.
سيبقى الهلاميون يتشكلون تبعاً للموقف حتى تتعب ملامحهم من تلك التبدلات، فلا يبقى لديهم منطقة صالحة لعمليات التجميل، وبهذا يكونون دهشة لأبنائهم في مواجهة خيانة الأب!
* شاعر وتشكيلي من الأردن
( الرأي الثقافي )