رلى راشد
يقرّ ماريو فارغاس يوسا بأنه متطيّر، غير انه لا يجد سبيلاً لفعل غير ذلك.
حين تتعلّق المسألة بالتفكير مليّا بالثقافة الراهنة، لا يحتاج الكاتب البيروفياني الحاصل على نوبل الآداب في نسخة 2010 لبذل الكثير من الجهد ليصل إلى الخلاصة القاتمة عينها، وليُعرب عن إعتقاده بأن الثقافة مثلما عرفناها في الأزمنة القديمة، باتت بمثابة المُنقرضة.
ليس سرّا أن الكاتب المسموع يواظب على التعبير عن ارتيابه من صيغ الثقافة في الحاضر، والحال انه يطلّ اليوم على القراء الناطقين بالإنكليزية بمجموعة من النصوص المحورية بعنوان “ملاحظات في شأن موت الثقافة: مقالات في خصوص الإستعراض والمجتمع”، محاولا أن يدرك التبدلات الطارئة في هذا السياق.
من اللافت أن يكون الكتاب بلغته الأولى أي القشتالية إستبقى عنوان “حضارة الإستعراض” في حين انتقى ناشره بالإنكليزية “فارير ستراوس أند جيرو” في 2015، أن يستمهل تعبيرا أكثر استفزازاً أُُنيط بأفول الثقافة تماما.
والحال ان العنوان الأساسي “حضارة الإستعراض” يستعير هويته من إحدى نوافذ الكتاب وحيث يحذر فارغاس يوسا من الإنحرافات في المجال الثقافي ومن الميل صوب تسليع الثقافة مُستهجنا حال المثقف الذي لم يعد يثير الإهتمام سوى “إذا تحوّل لعبة دارجة أو مهرجاً”. وفي حين يتراءى ان شكواه لا تخصّ موت الثقافة حرفياً وإنما تبدّلها جذرياً، يشير في هذا السياق إلى ان جعل الثقافة متوفرة للجميع يؤدي الى “نتيجة غير مرجوة أي إلى تبخيس الحياة الثقافية” وفي السياق عينه إلى “تبرير الشكل والمضمون السطحيين أيضا بذريعة ضرورة بلوغ العدد الأكبر من الناس”. لا يوافق البيروفياني تالياً على التمييز الذي أقامه الفيلسوف الروسي ميخائيل باختين بين الثقافة الرسمية وبين الثقافة الشعبية. يميل فارغاس يوسا صوب مقاربة الثقافة كأفضل الممارسات الفنيّة الفكريّة، وفي أي مجتمع.
يتمحور الكتاب على ستة مقالات طويلة يحمل أحدها هوية “حديث موجز في شأن الثقافة” حيث يوثّق فارغاس يوسا لاختلاف مفهوم الثقافة عبر الحقبات، ففي حين تأثر بالفلسفة عند الإغريق والحقوق عند الرومان والعلوم في حقبات أكثر حداثة، حافظ دوما على الإنتماء إلى إرث من الأفكار والقيم والأعمال الفنية. تمسّك مفهوم الثقافة أيضا بالمعرفة التاريخية والفلسفيّة والعلمية المُمهِدة لاكتشاف الأشكال الفنية والأدبية الجديدة والتنقيب في مجالات المعرفة كافة.
بينما يشير فارغاس يوسا إلى انه طالما وجدت فئات مختلفة من الناس، مثقفون وغير مثقفين ناهيك بأشخاص بيّنوا عن معرفة يسيرة بالثقافة، بدا التصنيف واضحاً بالنسبة للجميع ومقبولاً، في ظلّ سيادة القيم والمعايير الثقافية وأساليب التفكير والحكم والتصرف. أما في عصرنا، يزيد فارغاس يوسا، فتبدّل كل ذلك “توسّع مفهوم الثقافة إلى حدّ تلاشيه – حتى وإن لا يجرؤ أحدهم على الإقرار بذلك على نحو مباشر – فبات تصوّرا صعب المنال”.
لو كان القائل كاتباً ناشئاً لكان تصريحه بمثابة فضيحة، غير ان المتحدّث ها هنا صوت بيروفياني حصل على أرفع الإمتيازات الأدبية وهو يدافع تالياً من طريق كلامه، عن قيمة التربية الإنسانوية وعن قدرة الأدب والثقافة الرفيعة في جعل الحياة الإنسانية مغامرة عميقة وشغوفة، في مقابل التسطيح وضياع التراتبيّة وسيادة الثرثرة التنظيرية والحيل غير المفيدة. والحال انه يكتب في “خطاب موجز في شأن الثقافة” أيضا ان في وسع الثقافة أن تكون مرادفا للتجريب والتأمل والتفكير والحلم والشغف والشعر والمراجعة النقدية المستمرة والعميقة في ما يعني جميع مجالات التشكيك والإقتناعات والنظريات والمعتقدات. غير انه لا يسعها أن تبتعد عن الحياة الفعلية وعن الحياة المعيشة.
لا يتحفّظ فارغاس يوسا على إحساسه بالخيبة، وإن بدا ذلك مفاجئا في حال شخص حظيت تجربته بجميع التشريفات. غير ان بلوغه أعلى الهرم التكريمي لم يعفِ الكاتب على ما يتراءى، من إلقاء نظرة نقديّة لن يسعنا فهم دوافعها تماما، على الراجح. ها هو يكتب “ربما بدوت متشائما، لكن انطباعي هو انه ونظراً إلى الافتقار الهائل للمسؤولية، ونظرا إلى ميلنا صوب المتعة والترفيه، جعلنا الثقافة أحد القصور الخلاّبة وإنما الهشّة. قصور تبنى فوق الرمال وتنهار عند هبوب أول نسمة هواء”.
جريدة النهار