ثورات الجياع .. كيف يمكن تجنبها؟



في حياة الأمم والشعوب أيام لا تنسى.. تظل ماثلة أمام الأجيال المتعاقبة.. تمتاز الأيام الفارقة الصانعة للتغيرات الكبرى. تؤصل وتجسد مستقبل الشعوب وآمالها وطموحاتها.
وهناك اتفاق بين العلماء الاجتماعيين على أن الإصلاح هو نقيض الثورة؛ لأنه استراتيجية للتغيير الاجتماعي، تقوم على التدرج، ويتم إيقاعها بالبطء النسبي الذي يعتمد على التراكم البطيء، في حين أن الثورة تؤمن بالطفرة والانقلاب على الأوضاع المجتمعية الراهنة للتغيير تغييراً جذرياً.
يعرف المؤلف د. صلاح هاشم في كتابه “ثورات الجياع” الثورة بأنها مصطلح ذو معانٍ عدة ولكنها مرتبطة ببعضها البعض، وهو يستخدم أحياناً كالإشارة إلى تدمير إحدى الجماعات الحاكمة بواسطة جماعة أخرى، وإن كان هذا الحدث يسمى في الغالب انقلاباً.
ويعتبر أرسطو هو المؤسس الحقيقي لدراسة الثورات، ففي الكتاب الخامس من مؤلفه “السياسة” نجده لا يناقش فقط التفكك أو التحلل الاجتماعي وقبوله أي تفسير تؤكده الشواهد الواقعية، حتى ولو كان ذلك يذهب إلى أن الرغبة في التخلص من الفقر يمكن أن تؤدي إلى انقلاب اجتماعي بل يتناول التغير السياسي.
في الفصل الأول من الكتاب جاء بعنوان “ثورة الفرعون الجائع”، ويعد قراءة اجتماعية في برديات الحكيم إيبوور، قائلاً: شهد المجتمع المصري عبر حقبه المختلفة أحداثاً مختلفة عديدة، كان بطلها في كل مرحلة هو النظام الحاكم – مثلاً – كان العصر الفرعوني من أول العصور التي شهدت قيام أول ثورة للجياع.
وجاء وصف هذه الثورة بشكل واضح في برديات إيبوور: “أنشودة الفرعون الجائع”:
نامي جياع الشعب نامي
حرستك آلهة الطعام
نامي فإن لم تشبعي
من يقظة، فمن المنام
…..
نامي جياع الشعب نامي
بهذه الأبيات الشعرية البسيطة لخص الحكيم المصري القديم إيبوور في برديته الشهيرة والمعروفة بمخطوطة إيبوور، أحداث الثورة الأولى للجياع في تاريخ مصر.
وفي الفصل الثاني من الكتاب، يتحدث المؤلف عن البطالمة والرومان تحت عنوان “الطريق إلى آلهة الطعام”، فيذكر: دارت أحداث ثورة “الجياع الأولى” في عهد بطليموس الثالث أثناء حربه في سوريا، تلك الحرب التي أدته إلى الانهيار الاقتصادي للبلاد نتيجة الاتفاق عليها.
ومن أهم ما أسفرت عنه هذه الثورة، أنها غيرت من سلوك البطالمة تجاه الشعب المصري، وأحدثت تحسناً ملحوظاً في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والقانونية للمصريين، وبالتالي يمكننا القول إن هذه الثورة نجحت في استرداد المصريين لحقوقهم المنهوبة وكرامتهم المسلوبة. أما ثورة “الجياع الثانية” وقعت أحداثها في عهد بطليموس الرابع، الذي واصل إرث الحرب مع السوريين.
وعن ثورة الجياع في العصر الروماني يقول المؤلف: اتبع الرومان سياسة التمييز العنصري التي انتهجها البطالمة من قبل وهي كالآتي: “طائفة المواطنين الرومان” و”طائفة عتقاء الرومان واللاتينيين”.
لم يختلف الرومان كثيراً عمّن سبقهم من مستعمرين أو معتقلين للوطن المصري المنكوب بمطامع مع الغزاة، بل إنهم كانوا أكثر شراسة في تطبيق مبادئ الاستعمار المحتكرة لحريات سكان مستعمراتها. ففي عصر الحكم الروماني احتفظ المصريون بمكانتهم في قاعدة الهرم الاجتماعي، وكان الرومان دائماً يعتبرون المصريين من الأجانب المستسلمين، ولم يسمحوا لهم بممارسة أي حق من الحقوق السياسية، كما لم يعطوهم الحق في تطبيق نظمهم وعاداتهم المحلية إلا بموافقة الوالي الروماني.
ويشير المؤلف إلى ما أسماه “المسلمون والمجاعة”، فيذكر: لعل أولى الأزمات التي مرت بها مصر بسبب الأزمات الاقتصادية والمعيشية الطاحنة كان في عصر الدولة الأموية، فقد خرج المصريون في العهد الأموي في ثورة عارمة.
ويذكر أبو العباس أحمد بن علي تقي الدين المقريزي الشافعي، شيخ المؤرخين المصريين، في كتابه “إغاثة الأمة وكشف الغمة”: أن أول مجاعة يخرج الناس فيها مطالبين بعزل الوالي، كانت هي تلك التي حدثت في مصر، حينما كانت تحت إمارة الدولة الإسلامية في عهد الدولة الأموية، عندما تولى عبدالله بن عبدالملك إمارة مصر.
وبالعودة للتاريخ نجد أن ثورة الجياع في عهد عبدالله بن مروان قد قامت عندما جاء إلى مصر في سنة 86 هـ ورفض أهالي الفسطاط استقباله، وكانت مصر في ذلك الوقت قد غار نيلها فلم يبق منه شيء، تزامن قصور الفيضان مع قدوم عبدالله، لذا وصفوه بأنه “نذير شؤم”، فبدأ إصلاحه بفرض الضرائب، فارتفعت أسعار الغلال وانتعش الفساد.
وبعنوان “ثورتا القرن والصراع بين الجوع والكرامة” يقول المؤلف: إن الثورات لا تحدث فجأة ولا تجنى ثمارها فور حدوثها، وكذلك ثورة 25 يناير، إنها لم تحدث فجأة، وإنما هي لميراث طويل من الظلم والاستبداد والفساد الذي استمر لأكثر من 30 عاما، كما أن ثمارها لم تظهر فور حدوثها، وإنما أخذت في الظهور تدريجياً، حيث بدأت الثورة تحقق أهدافها وبدأ الشعب المصري يحس بجني مكاسبها وبدأت تظهر نتائجها.
فمن الناحية السياسية، تمثل في التحول الأساسي الذي تحقق بسبب ثورة 25 يناير هو إنشاء نوع جديد من الشرعية على الحاكم في مصر.
وفي الناحية الاجتماعية، والتي تمثلت في اكتساب حالة “الماجناكارتا”، والتي تعبر عن فكرة التمرد على الحكم المطلق التي لم تكن واردة، ولا مطروحة في أي مكان في العالم.
وفي الفصل الخامس والأخير من هذا الكتاب، يطرح المؤلف هذا السؤال: هل نحن مقبلون على مجاعة؟ رغم تعرض مصر لثورتين كبيرتين خلال ثلاثة أعوام متعاقبة، فما يزال الحديث عن موجة ثورية ثالثة يتصدر تفكير ونقاشات كثيرة مع السياسيين ورجال الاقتصاد، ويظل السؤال قائماً هل نحن بالفعل معرضون لثورة جياع؟ الإجابة بكل شفافية “نعم” معرضون لثورة جديدة يقودها جياع، إذا ما استمرت هذه الأوضاع التي تعيشها البلاد كما هي، إذا ما استمرت موجات الغلاء بلا ضابط، وتحمل تكلفتها الفقراء وحدهم، وظل رجال القصر في أماكنهم يهنئون برغد العيش يفكرون في مجاعة الفقراء بطريقة ترفيهية تقليدية.
وفي الختام يرى د. صلاح هاشم، أن الأمل موجود في تجنب ثورة جياع، ولكن ليس بالأمل وحده ولا التمني تحل المشكلات أو تنهض الأمم.
ولكننا بحاجة لسياسات جديدة قادرة على تجاوز أزمات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي الذي نعيشه، فالواقع يقول إن أزمتنا ليست في مواردنا ولا في ندرتها، وكبوتنا ليست في حجم تعدادنا. وإنما هي في طبيعة البشر ولا أعني بالبشر التعداد السكاني، ولكني أعني العقلية التي يفكرون بها، والأساليب التي يتبعونها في مواجهة مشكلاتهم، والخطط التي يرسمونها لتنمية ذواتهم وتنمية المجتمع الذي يعيشون فيه.
يذكر أن كتاب “ثورات الجياع” للدكتور صلاح هاشم صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ويقع في نحو 229 صفحة من القطع المتوسط.

وكالة الصحافة العربية

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *