حرية على الأبواب


*موسى إبراهيم أبو رياش



خاص ( ثقافات )
ستة شهور بالتمام والكمال تفصلني عن نيل الحرية، والتحرر من العبودية للوظيفة الحكومية، التي أحنت الظهر، وأشابت الشعر، وأعلَّت البدن، وسمَّمت الروح. وحولتنا إلى أشباه بشر أو بقر لا فرق، أفراداً من قطيع، مكبلين بقيود من خيوط وخطوط حمراء، ندور في دوائر التيه والضياع، لا نملك إلا ابتسامات بلهاء، وأحلام ميتة، ومستقبل محكوم عليه بالإعدام!
أربعة وعشرون عاماً ونصف عام، تدحرجت ككرة صوف، ما تزيدني إلا أشواكاً وشوائب وعللاً ومشاكل وخصومات، وبعض زهور برية!
يقولون … انتظر الدرجة الخاصة، فثمة مكتسبات كثيرة، وراتب مرتفع، ووجاهة. لن أنتظر الدرجة الخاصة التي تلوح في الأفق بعد سنتين أو ثلاث، فما تُغني الدرجات عن دركات تشدنا إلى الأسفل، وتغمس أرواحنا في دهاليز مظلمة، قد لا نستطيع منها فكاكاً. درجة لا تأتي إلا بعد فوات الأوان، وضياع العمر، وخسارة ما تبقى من حياة!
عصفور في اليد، أجمل وأفضل من عشرة على الشجرة. زهرة شذية جميلة تكتحل بها العين، وأتنفسها مع الهواء، أحبَّ إليّ من حديقة غنَّاء تلوح في الأفق، قد أبلغها، وقد أُخْتَصَر! لست قنوعاً، ولا زاهداً إلى هذه الدرجة، ولكن للعمر حُكمه، وللجسد شروطه، وللحياة من حولنا ظروفها ومتطلباتها!
سأعيش كما أريد، حراً، متحرراً، بعيداً عن مناكفة الحكومات التي لا تجد فيما نكتب إلا دغدغة لها، وتنفيساً عنها، وحِجاباً يُبعد عنها عيون الحاسدين. بعيداً عن انتقاد المسؤولين وترهلهم وفسادهم وضعفهم، فما خُلقت آذانهم إلا من طين نتن، وقلوبهم من حجر صلد، وعقولهم من عهن منفوش. بعيداً عن كشف عيوب ومشكلات واحتياجات مجتمع، استمرأ العيش في المستنقعات. همه لقمة خبزٍ، وإن كانت مُغمسةً بالذل، وشَربة ماء وإن كانت برائحة عَطِنة!
لن أضع عصا الترحال، ولن أبكي على الأطلال، ولن ترسو سفينتي على جودي. بل سأغذُ السير أضرب في الآفاق، أبحث عن ملاذ للروح، ومأوى للجسد، عن نبع ماء الحياة، عن بستان الفاكهة السحرية، عن نجمة تحمل اسمي، عن مستقر لم يُخلق إلا من أجلي!
يسألني البعض: وماذا ستعمل، فالحياة صعبة، ولا بدَّ أن تعيش؟؟ أستنكر السؤال، فهل تقاعدتُ لأعمل؟؟!! وهل كُتب علينا أن نعمل ونشقى حتى الممات؟؟ أما لنا حظ في الراحة، والتقاط الأنفاس، وأن نعيش بحرية، بعيداً عن ضغوط العمل وقيوده وخيوط عنكبوته؟!
نعم… قد يكون الوقت مناسباً أن نعمل ما نحب، كما نحب، وقتما نحب، أنَّى نحب، على سجيتنا، دون أن يُلاحقنا سوط المسؤول، وعقارب الساعة، ودوامة المواصلات، والروتين القاتل الذي بلَّد الأحاسيس، ودمَّر الأحلام، وحوَّلنا ثيراناً تدور في ساقية من سراب!
أتمنى أن أعود فلاحاً أهدهدُ التراب، وأُمسِّد خده بخدي أو راحة يدي، أزرع الأرض بالخضار والأزهار، وأعتني بالأشجار، أرويها بالماء كما يسقي الحبيب حبيبه، أو الوالدة وليدها. وأُخلِصُها مما يُنغص عيشها من أشواك وأعشاب ضارة وحشرات متربصة.
أتمنى أن أعود ذلك الرويعي، الذي كان يرعى غنيمات يقودها إلى البرية كل شروق شمس، وزاده رغيف خبز ورأس بصل، أو قليل من زبدة مجهولة النسب، وماء أتقاسمه أحياناً مع جدي صغير، يأسرني بدلاله حيناً، أو يجبرني أن أتعطف عليه رحمة وحناناً!
أتمنى أن أفتح بقالة متواضعة في حي شعبي، لأعيش فرحة طفل وهو يشتري كيس شيبس أو علبة عصير، يأخذها ويطير فرحاً. يذكرني بذاك الطفل قبل خمسة وعشرين عاماً لحظة أعطاني “تعريفة/نصف قرش” يُريد علكة وأن أُرجع له بقية المبلغ! … أو لأتمزق ألماً ويد عجوز ترتعش وهي تُعِدُّ نقودها بحرص وحذر؛ لتشتري بيضة أو قطعة جبن أو مكعب ماجي!… أو لأسمع تنهيدة رب أسرة هدَّه التعب وأضناه البؤس، يطلب على استحياء أن أُسجل على دفتر الديون ما يشتري من ضروريات الحياة؛ ليعيل أسرة تربطه بالحياة!
يقولون: أبعد هذا العمر، تعود إلى الوراء، فما إلى العودة من سبيل. وما فائدة الدراسة والعمل والخبرة؟ هل تشطبُ عمراً بأكمله بجرة من خَرَف كأن لم يكن؟!
أفكر طويلاً، وأجد فيم يقولون بعض الصحة والوجاهة. فما فات درجات لما هو آت، وقد لا تُفلح محاولة العودة إلى الوراء، إلا على أنقاض وخراب!
ربما … أعتزل في كهف افتراضي أصنعه لنفسي، أستسلم فيه للقلم يقودني في متاهات الزمن، وتلافيف الحياة؛ أكتب مزيداً من الغثاء، وملوثات الأوراق والعقول… فما وُجدت الأوراق البيضاء إلا لنملأها بالخربشات السوداء. وما صُنعت لوحة المفاتيح إلا لتمارس عليها الأصابع أحقادها وضغوطها. وما وُجدت الملفات الإلكترونية إلا لنلف بها أفكارنا المشوشة، ورؤانا الضبابية، وكلماتنا المندلقة، وإبداعاتنا المزعومة!
قد أعمل محرراً أدبياً مزاجياً بلا حساب للزمن، بلا شروط ولا مواعيد، أقصف أعمار النصوص، وأهدم أركانها، وأطلب أن يُعاد البناء من جديد. فإما إعمار كما أرى، أو ليذهب النص إلى الجحيم!
قد أعمل في مشروع ثقافي ورقي أو إلكتروني، لي أو لغيري، أمارس قناعاتي، وأحقق ذاتي، وأطبق بعض أفكاري ومشاريعي التي تراكمت وعلاها الصدأ.
نعم، قد أعمل، هنا أو هناك، ولكن المزاجية والحرية شرطان مسبقان، لا أتخلى عنهما مهما كان الثمن؛ فقد تقاعدت لأتحرر ولأنطلق في الكون كعصفور أضناه القفص، ولن أقبل أن أعود عبداً من جديد، ولو كانت قيودي من ذهب أو ألماس!

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *