«إني أتعافى» للروائي الفرنسي ديفيد فوينكينوس… الجرأة في اختيار حياة أخرى


*محمد عبد الرحيم


«إن المرء لا يكتب لأن الحياة تركت له وقتاً حراً، بل يجب عليه أن ينظم حياته حول الكلمات، وليس العكس، وأنا لا أملك أي موهبة، ولا حتى أي فكرة، وتبيّنت الآن أنني لم أكف عن الكذب على نفسي كل هذه السنوات، هذه السنوات التي كنت أقول فيها إن حياتي في مرحلة البلوغ (من عمل وزواج وأولاد) كانت تمنعني من كتابة روايتي، كل شيء كان مزيفاً، فلم تكن هناك رواية قط، لم تكن هناك رواية أبداً». (الرواية ص 279).
يكشف الراوي هذه الحقيقة بعد مراوغات تمتد بطول الرواية، وإن كانت مراوغات على القارئ، إلا أنها على الراوي نفسه في المقام الأول. وبهذا ومع نسج تفاصيل حياتية غاية في البساطة تمس أغلب الناس، تبدأ الرواية من لحظة شبه مستقرة لحياة تبدو مستقرة، وإن كان الاستقرار في حقيقتها وهماً، هذا الوهم الذي تجسد في ألم مزمن في الظهر. 
عبء التفاصيل وزيفها خلقت هذا الألم الذي أصبح ملازماً للراوي، حتى استطاع أخيراً مواجهة نفسه قبل الآخرين بحقيقته وإعادة النظر إلى تفاهات محسوبة من أيامه، ليقف في النهاية كجسد حي، سليماً يستطيع التواصل والتفاعل مع حياة أخرى حقيقية. فقط واتته لحظة من الجرأة، الأمر أشبه بإجراء جراحة، حتى لو كانت آلام الفقد من بعض نتائجها. الأهم أن الراوي وجد نفسه في النهاية، وفي بساطة لم يكن يتخيلها! الرواية صادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/الكويت، سلسلة إبداعات عالمية، رقم (407) يونيو/حزيران 2015. في 380 صفحة من القطع المتوسط. قام بالترجمة والتقديم محمود المقداد، والمراجعة منتجب صقر.
الألم
حياة عادية لموظف في شركة فرنسية شهيرة للإنشاءات الهندسية، تناقضه يبدأ مع حياته العادية التي أصبحت هامشية، واسم الشركة المرموق. زوجته تدير حضانة للأطفال، وتتأسى لأنهم ينسونها ولا يتذكرونها حينما يكبرون قليلاً. ابنه سافر إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته، بينما ابنته استقلت في بيت صديقها، الذي يُقارب الراوي/الأب في السن، فأقام شبه مقاطعة لقرارها هذا، ولا يستطيع تفسير الموقف بأنه يقع تحت مسمى حريتها الشخصية. حياة يحيطها الإحباط، وروتينية، وقلق وتوتر أقساط المنزل الجديد. الصداقات محدودة، امرأة ترسم اللوحات وزوجها طبيب الأسنان. وعلاقة متوترة بوالد ووالدة الراوي، والده الذي اعتاد التقليل من شأنه، وأمه التي ترى أنه أخطأ الاختيار في زواجه. تبدأ آلام ظهره التي لا يجد لها أي تفسير، من طبيب لآخر، عضوي ونفسي، وصولاً إلى العرّافات، لكن بلا جدوى، فكان عليه حل مشكلة الألم بنفسه، ولم يجد إلا إعادة نبش تاريخه بالكامل، ونقده وقول الحقيقة مهما كانت النتائج.
«نعم كنت أخاف من الموت، وكان كل شيء يبدو لي ساخراً، ماذا كنت قد أنجزت في الحقيقة؟ كنت ألف في دائرة من غير أن أجد شيئاً مُهماً، إنهما ولداي بالتأكيد، ولكن ما هي طبيعة علاقاتنا؟ إن أطفالنا هم رواياتنا، ولكن لم نعد نكتبها نحن». ص 79.
المُسكّنات
يحلم الراوي بكتابة روايته، التي توقف عنها مُكتفياً بملاحظات وملخصات وحكاية لم تكتمل على الورق، ورحلة ينتويها إلى روسيا. لكن كل شيء مؤجل إلى حين لم يعرفه! يورطه أحد الزملاء في العمل، ليكتفي رئيس الشركة بإسناد مهام أشبه بالأرشفة، وليصبح زميله هو مديره، الذي أصبح يدخل حجرته من دون استئذان، وان يُلقي بالأوامر من وراء ظهره، بينما الراوي لا يستطيع تحمّل آلام الظهر، فما منه في النهاية إلا أن ينتفض ويضرب مديره بقسوة، ويهبط الشارع في سعادة، وقد انزاح ألمه أخيراً «ينبغي للمرء أن يعيش حياته بالعكس لئلا يُخفق فيها» ص 206. أيقن الآن أنه بلا عمل، لكنه في حالة سعادة لا توصف، يسير في المدينة، ويتأمل جمالاً لم يعهده من قبل، ويصبح أكثر خفة، حتى يصل إلى البيت، ويجد زوجته التي فقدت والدها منذ فترة وجيزة تطالبه بالانفصال، فينصرف في هدوء تاركاً لها المنزل «ولكن لماذا رحلت في الحال من غير أن أقول شيئاً؟ ألم تكن تفضل ان أعترض على إرادتها؟ كان بإمكاني أن أقول لها إن طلاقنا ليس موضوع نقاش، كما أنني كنت أحبها بطريقة لا يجوز مسّها وغير خاضعة للانفصال، كان لدي الكثير من الكلمات غير المألوفة، وكل هذه الكلمات عن المحَبّة، وقد اخترت الخضوع لقرارها، مُستنداً إلى مفهومي عن احترام الآخر، لكن أدركت الأمر الآن، هذا الاحترام هنا هو نسخة لطيفة من الجبن» ص 200. رجل مطرود من العمل والبيت، حر إلى حد كبير، انتفى عنه ألمه، يعيش سعادة الإقامة في أي مكان، أو الذهاب إلى أي مكان، وقد امتلك وقته أخيراً.
لكن الألم يُعاوده، فعلم تماماً أن هنالك عدة تفاصيل لابد من مواجهتها، وقد أصبح الألم مؤشراً يوجهه ويضيء له الطريق «وفي أقل من نهار، انقلب كل شيء، لم يعد لدي زوجة، ولم يعد لي وظيفة، وعندي دوماً آلام في الظهر» ص 220. وكما واتته الجرأة في ضرب زميله، يشعر بأنه يمتلكها الآن لمواجهة تاريخ طفولته وأربابه، فيذهب إلى بيت الطفولة ويعنف الأب الساخر على الدوام، والأم التي تعامله كطفل خطّاء لا أمل في تخطيه عتبة سِن الرشد. فيزول ألمه، ويبدأ التفكير في ما انتظره طوال حياته.. كتابة رواية «كنت بكل بساطة عاجزاً عن مواجهة حُكم الآخرين… لم أكن أعلم كيف أصنع للعيش في مأمن من هواي، لقد ابتعدت عن الجوهري، وأقمت في أبعد مكان ممكن عن المنبع، لقد كان جفائي يأتي من هنا… جفائي وأوجاعي، ولكي أتحسن يجب أن أنقل حياتي إلى حيث يجب أن تكون، لقد كانت حياتي الحقيقية تنتظرني منذ عشرين سنة» ص 212.
الركض
مُصادفة قابل حُبه الحقيقي، بعد حياة حافلة بلحظات سعادة مزيفة، وإحباطات مزمنة، بعد زواج وإنجاب وعمل لم يستطع أن يحقق فيه أي نجاحات، سوى وصفه بالرجل المسالم الهادئ، الذي سقط عنه بدوره، بعدما عاش لحظة سعادة/تهوّر وضرب زميله ضرباً مبرحا. قابل حبه مصادفة.. أفكار متقاربة، ومهنة يتفهمها ويتقنها كليهما/مهندسة ديكور ومهندس معماري، وفندق مهجور أقام فيه وساعد صاحبه العجوز في تجديد عمارته وإعادته للحياة، فأصبح شريكاً له، واستقل بحجرة في الفندق مدى الحياة. لكن عليه أن يتخلص تماماً من أي تشوّش يُعيد إليه مجرّد الإحساس بالألم، حتى تتحول المُصادفة وتصبح يقينا «ويبدو أن عليّ إنشاء قائمة بكل النزاعات التي كنت أعيشها، وبكل ما كان يكدر عليّ ويحرمني ويجمدني… وربما كان الحل يكمن في الأمر الزهيد. وبالمُصادفة حضر إلى ذاكرتي كثير من التفاصيل: إتهام على غير أساس بسرقة كتاب/عدم دعوة صوفيا كاستلو لي في سن الثامنة/ اغتيال جون لنّون (الحرمان الكلي لعدم معرفة ما ألفه بعد سنة 1980)/قص شعر مخفق بفظاعة سنة 1995/عدم النجاح في انتفاد فيلم عندما كان كل الناس يمتدحونه/وقوع دراجة ابني الهوائية في اليوم الذي نزعت منها العجلتين الصغيرتين/خرق جانب سيارة واقفة، والانطلاق من غير ترك كلمة/عدم تمكني من أن أقول لـ (كلود جاد) عند مفرق شارع الـ (غيتيه) في مارس/آذار 1987، إلى أي حد كنت مُعجباً بها». ص 299: 301. فمهما تبدو تفاهة التفاصيل في عيون الآخرين، لكنها تكفي أنها تفاصيلنا، تفاصيلنا المؤلمة. هذا يصل إلى مواجهتنا بحقائقنا، مهما حاولنا الالتفاف عليها، فالراوي يعترف أن العشرين عاما كانت في انتظار وهم كبير يُدعى .. كتابة رواية.
ومن ناحية الشكل نجد أن فصول الرواية تتخذ عناوينها من حالة الألم ودرجاته، مثل: شدّة الوجع… مشغول البال/جاهز للانتحار/يائس/شيزوفرينيا/صوفي/ميّال إلى القتال/ضائع/ الرغبة في إنهاء الصلة مع الماضي. وحينما تصبح شّدة الوجع في الدرجة صفر، تصبح الحالة المعنوية .. نحو المستقبل. «كانت بولين تركض أمامي، فكنت أرى شعرها المربوط الذي يتطاير في كل اتجاه … يركض المرء، ويركض ويركض، وأنا كنت أركض وأركض وأركض. منذ زمن طويل لم أكن أركض، لم أكن أشعر بأي وجع» الرواية ص 379.
ديفيد فوينكينوس روائي وكاتب سيناريو فرنسي، من مواليد باريس 1974. يُعد من أشهر كُتاب الرواية الفرنسية المعاصرة. أصدر حتى الآن 11 رواية، منها… «الطاقة الإيروسية لزوجتي، الذكريات، الرّقة، إني أتعافى، مَن يتذكر ديفيد فوينكينوس؟ إنعكاس البلاهة، انفصالاتنا، في حالة سعادة، وأخيراً رواية شارلوت الصادرة في العام الفائت». كما حصل فوينكينوس على عدة جوائز شهيرة، أهمها… جائزة فرنسوا مورياك 2001، جائزة روجيه نيمييه 2004، وجائزة جان جيونو 2007.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *