موعد على العشاء.. لقاء من وراء نافذة صغيرة




*نوران يوسف


خاص ( ثقافات )
رأى كل من شكري (أحمد زكى) ونوال (سعاد حسنى) انعكاسه على وجه الآخر. لقاء من وراء نافذة صغيرة، تلامسٌ رغم رهافته، عَبَرَ ذلك الحاجز الضيق بمعزوفةٍ رقيقة لـ(كمال بكير)، معزوفة تأخذ دورهَا بسلاسةٍ في النص، فى الحوار لِتُبدِدَ حيرة (بشير الديك) وهو يطفئ آخر سيجارة في علبته. معزوفة تعلو مقاماتها بين مشهدٍ وآخر، بين كلمة وأخرى لتسرد الحكاية. 
ربما لتلك المرايا المعلقة على جدران “الكوافير” دوراً فى ارتباطهما، حقيقة – ودون مبالغة – رأيتها بنفسي وهى تتعقب لقاءاتهما الأولى، تترصد لإيماءتهما، وتهمس فى أذنِ كلٍ منهما بمشاعرهما تجاه بعضهما.
ذات مرة، راحت تلك المرآة تشكو لشكري عن ليلة أمس، صورت له نوال وهي مستلقية في فراش عزت (حسين فهمى) بلا حراك، تشعر بجسدها يصاب بالشلل تحت ثقل جسده، لم يباغتها هذا الشعور فجأة فهي في كل ليلة ومنذ يوم زفافهما، كانت تشعر بجسد عزت وهو يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم إلى أن جاءت تلك الليلة، شعرت فيها نوال بأنها تتجمد تحت جسده، قررت في هذا اليوم أن تشكو لمرآة شكري، كما أخذ شكري – ولأول مرة – في الاستماع لها. 
ظلت تلك القبلة التي طبعها شكري على زجاج باب الصالون، تُذكر نوال بظلها الذي تلاشى وراء تلك الصورة شبه المنسية، صورة زفافها على عزت، أتذكر جيداً تلك اللحظة، ربما كنت المصور الذي التقط لهما تلك الصورة أو كان (محسن نصر). كان هذا في يومٍ ممطر، شديد البرودة، ورغم أن لشتاء مدينة الأسكندرية أثراً خاصاً وحميمياً كان يُشعِر نوال بالدفء، إلاَّ أنها وفي تلك اللحظة – وكما لاحظ (محمد خان) وهو يوجه العروسين لأخذ تلك الصورة الأبدية – لأول مرة في حياتها شَعُرتْ بالبرد. لم تشعر بقبلة أمها رئيفة (زوزو ماضى) وهي تضعها على خدها، شعرت بكائنٍ غريبٍ عنها يقترب منها ليبارك زواجها. 
لم يكن غريباً أنها ظلت تبكى وترتعش في يومٍ ما أمام لوحة في معرض للتحف والأنتيك.. لأنها لم تستطع شراءها، كانت تلك الرعشة التي شعرت بها حينها.. تعبيراً عن هذه الصورة التي أُخذت لها على غرة مع عزت. تلك الطفلة الصغيرة المُنقادة وراء العجوز، يُمسك بيدها ويسيران في طريقٍ ضيق، كان ما يَحُثها على متابعة المسير، رغبتها في الوصول لتلك النقطة المضيئة في آخر الطريق الموصل لشاطئ البحر، ظلت تسير برغبةٍ معلقة، كما ظلت نوال تعيش أيامها بخوفٍ تَشَكَّل في صورةِ فتاةٍ معلقة على سور شرفة، الجميع يقف من تحتها وكأنهم أتوا ليشاهدوا سقوطها، طُبِعَتْ تلك الصورة في ذاكرة نوال، صورة اِمتدت بملامحها صوتاً لا يفارق مسامعها، فظلت كباقى المشاهدين تنتظر موتها في أي لحظة. 
لم تنسَ ذلك اليوم الذى أهداها فيه شكري بعلبة شوكلاتة، قال لها وهو يبتسم: “الشوكولاتة دي بالبخت، وبالبندق”. اعتذرت له بلطف قائلة:”متشكرة أوي، بس أنا مابكلش حلو”. ربما بالفعل لم تكن نوال تأكل الحلو، وربما أيضاً منعها خوفها من أن تقرأ حظها مرة أخرى بعد طلاقها من عزت. في ذلك اليوم، وبعدما أوصلت شكري بسيارتها لبيته في ليلة شديدة المطر؛ ظلت تنظر لملامحها في مرآة غرفة نومها، تتلمس أصابع شكرى التى انسلت بين خصلات شعرها ليُعدل تسريحته، كما فى الصورة التى رسمها لها بعد أول لقاء وظل محتفظاً بها في جيب سترته، حينها، راودتها رغبة بضرورة إسترداد لوحتها. 
طوال ست ساعات، تكبس نوال بأصابعها على أزرار الآلة الكاتبة في مكتبٍ للمحاماة، تعمل فيه كسكرتيرة بعد طلاقها ، تجلس بين ملفات لقضايا نساء مطلقات، تشعر وكأنها ملفاً تائها على أحد هذه الأرفف. لوهلةٍ أحست بأنها كاتبة في آخر عمرها، تجلس وحيدةً بعيدةً عن الناس وتكتب سيرة حياتها. تلاشى شعورها هذا عندما فتحت باب مكتب المحامى ووجدت وجه شكري يطل من ورائه، يجلس على الكرسى ويتابع بنظراته خطواتها. حينها قررت نوال بأن تمد يدها في علبة الشوكولاتة، وتختار قطعةً لتقرأ حظها. 
كان الموعد الأخير، أحسَّت نوال بهذا وهي تخلط السم “بالمسقعة” التي يحبها عزت. ربما لم يلاحظ المشاهد دموع نوال وهي تُقطع بالسكين حبات الباذنجان، هي بالفعل لم تبكِ في هذا المشهد، ظلت صورة شكرى وهو في ثلاجة الموتى حاضرةً في ذهنها، تقوي بداخلها رغبة الإنتقام من عزت بعد قَتلهِ لشكري.. عقاباً لعدم عودتها في الإطار المُذهب لصورتهما القديمة. تُقدم لعزت الجالس أمامها على المائدة طبق المسقعة، أرغمها على أن تأكل من نفس الطبق بعدما لاحظها وهي تتابعه.. دون أن تمد يدها للطعام. ارتعشت، في تلك اللحظة تذكرت صورة شكرى، وضعت في طبقها ملعقتين من المسقعة، ظل عزت يراقبها، وما إن إن أكلت نوال أول ملعقة حتى أخذ شكرى يأكل بنهم، حينها، راحت نوال تتحدث لعزت بصوتٍ مبحوح، كانت تشعر بحنجرتها وهي تحترق، برغم ذلك، أكملت حديثها واستعادت معه ذكرياتهما. شعرت بجرأة وهي تواجه موتها، مقتنعة تماماً أنها تستحق الموت كما يستحقه عزت. جرأتها هي التى أخذت عزت على الشك في أمر هذا الطعام، لم يرها بمثل تلك الجرأة من قبل. سألها قائلاً:”هو الأكل دا في حاجة؟”. أغمضت عينيها وقالت:”في سم”. تجمدت الصورة وهما يجلسان قبالة بعضهما، صورة كصورة زفافهما المقلوبة على عدسة الكاميرا، تشبهها وكأنها انعكاسها، تنطفئ أضواؤها تدريجياً لتظهر صوت تلك المعزوفة التى بدأت معها الحكاية. 

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *