*الدكتور خالد التوزاني
خاص ( ثقافات )
عن منشورات الدار العالمية للكتاب بالدار البيضاء/المغرب، صدر كتاب جديد مترجم، يحمل عنوان: إكسير الحقيقة، لمؤلفه موسى محيي الدين (إيمانويل لوفين) المقيم حاليا في استنبول/تركيا، بترجمة الأستاذ الباحث الدكتور رشيد عاصم، ويقع هذا الكتاب في 224 صفحة من الحجم الكبير، في طبعة جميلة وأنيقة، وبلوحة غلاف جذاب يعكس أهمية موضوع الكتاب ومجاله المعرفي، حيث الزخرفة الإسلامية البديعة التي تُسهم في تشكيلها دوائر مترابطة على شكل سلاسل بلون الذهب متداخلة الحلقات لتكوِّن جزءا من بهاء الغلاف، وتؤكد ارتباط الموضوع بمجالات معرفية وثقافية متباينة وملتحمة بعضها ببعض، وبتوظيف ألوان لها صلة مباشرة بالتراث العربي الإسلامي حيث اللون الأخضر وإيحاءاته الدالة على التدين والسلام والتصوف وأماكن العبادة المقدسة.. وكذلك اللون البني المتدرج الذي أضفى طابع الهيبة وفسح تدرجه من الانغلاق إلى الانفتاح في إعطاء طابع للقارئ بأن ما سيجده في الكتاب موغل في القدم ومستمر في الحاضر ليؤثر في مستقبل الإنسان ومعاده، ومع استمرار انفتاح اللون البني في خلفية اللوحة يتبادر إلى مخيلة المُطالع في لوحة الغلاف أن ما سيحصله من وراء الكتاب من معرفة تساوي قيمتها الرمزية الذهب أو ربما هي لا تقدر بثمن، ولا شك أن الغلاف بهذا التنسيق الجميل يسهم في تكوين صورة ذهنية قوية عند القارئ قبل فتح الكتاب تزيد من وهج شوقه وارتباطه الوجداني بالموضوع وإذكاء رغبته في اكتشاف هذا الإكسير الذي يُفصحُ عنه العنوان بخط كبير مضغوط وبارز وبلون أخضر يكشف عن خلود الحقيقة وحاجتنا إليها لتحقيق الأمن النفسي والسلام الإنساني والاطمئنان الروحي مادام اللون الأخضر في الثقافة الإنسانية عامة وفي الثقافة العربية الإسلامية له دلالات عميقة مرتبطة بالدين والأخلاق والفلسفة والسلام والانعتاق من أوحال النفس وأوهام العقل والانطلاق في أجواء الغيب وما وراء الميتافيزيقا والكون والوجود.. وكل ما يشير إلى عالم الحق، ولعل الغائب الكبير في هذا الغلاف البهي، هو “النور” المتجلي في لون “البياض”، ويبدو أن تغييبه مقصود باعتباره محصلة الحقيقة التي على القارئ أن يبحث عنها، فالحقيقة ربما حقائق ولكن النور واحد، والغلاف ربما أراد أن لا يسقط في الحتمية والقطع بأن يفرض أمرا ما على المتلقي أو أن يقول له “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى “، وإنما فسح له المجال ليبحث بنفسه ويرحل مثلما رحل المؤلف صاحب الكتاب في رحلته المقدسة بحثا عن الحقيقة، وقد كُتب العنوان بلون أخضر بارز ومضغوط حيث يظهر بوضوح في بؤرة لوحة الغلاف فيؤسس موضوع الكتاب جليا واضحا دون أي تشويش أو تشتيت للانتباه.
هكذا، كان غلاف كتاب “إكسير الحقيقة” لمؤلفه موسى محيي الدين (إيمانويل لوفين) والذي ترجمه الأستاذ الدكتور رشيد عاصم، موفقا في إعداده، مادام قد حاول إعطاء صورة واضحة عن موضوع الكتاب ومجاله، مما عزز ميثاق القراءة وخلق انتظارا عند القارئ مُغَلَّفًا في ثنايا التشويق والإثارة والحث على المبادرة بمطالعة الكتاب للظفر بالإكسير، إكسير الحقيقة.
يستمد كتاب “إكسير الحقيقة” أهميته من تقديمه للقراء حصيلة التجربة الروحية لأحد الشخصيات العلمية البارزة في العصر الحديث والمعاصر وخاصة في رحلة بحثها عن الحقيقة، حقيقة الحياة والوجود والهدف من العيش ومسار الإنسان وتحولاته في رحلة الحياة وبعض القصص العظيمة التي حوّلت مجرى التاريخ مثل خلق آدم، إضافة إلى مناقشة قضايا فلسفية وإنسانية عميقة مثل إدراك الحب والحرية وتمييزها عن التبعية والاستقلال والخوف والرغبة والإرادة ومقامات الفهم وأمراض القلب والعاطفة..، وغيرها من القضايا والموضوعات الشائكة والتي تعتبر بمثابة إشكالات كانت ولا تزال تشغل بال الإنسان في كل زمان ومكان، ومن ثم يقدم هذا الكتاب رؤية للحقيقة بعيون أمريكية، مما يجعله كتابا مفيدا في الإحاطة برؤية الآخر للثقافة العربية الإسلامية في بعدها الروحي والوجداني، من زاويةٍ تستمد نظرتها من الممارسة الإسلامية عن اقتناع وإيمان لا استطلاع وفضول، مما يجعل الكتاب جديرا بالتأمل والقراءة.
يدور موضوع هذا الكتاب حول رحلة الإنسان في بحثه عن الحقيقة، وخاصة تجربة الفيلسوف موسى محيي الدين (إيمانويل لوفين)، وتدور فصوله حول التزكية، وترقية الإنسان في مراتب القرب من الحق والحقيقة، وتفاصيل السفر المقدس نحو مقامات الحكمة العليا، بعد اجتياز المقامات الدنيوية الوهمية قاصدا أرض الحقيقة، حيث يتجاوز الكتاب المفهوم المألوف والمتداول للحقيقة عند الفلاسفة واللغويين وأهل المنطق إلى معاني أكثر عمقا ودلالة، تحاور الإنسان ووجوده، لتقنع القارئ في نهاية الكتاب بوجود حقيقة واحدة ينبغي التعلق بها والبحث عنها والعيش من أجلها هي حقيقة الله، فكل شيء في نظر المؤلف زائل ووهمي ولا يعول عليه، يقول: ” لقد قضينا الكثير من حياتنا في الوهم” (ص: 221)، ولذلك إذا أردنا الخلاص الأبدي “نحن بحاجة إلى أن نقع في حب الله وصفاته”، (ص: 222)، وهذه النتيجة يبذل المؤلف ليصل إليها جهدا واضحا في إقناع القارئ، حيث احتاج لأربعين فصلا، هي فصول الكتاب ليخلص إلى تلك النتيجة ويكشف الحقيقة التي أدركها من خلال تجربته المعرفية والروحية الطويلة التي قضاها في البحث عنها.
لعل ما يمنح لهذا الكتاب أهمية خاصة، أنه ليس تأملا فلسفيا أو استعراضا وجدانيا منعزلا عن سياق تفاعلات الحياة وأحداثها، بل يمثل خلاصة تجربة روحية عميقة عاشها مؤلف الكتاب موسى محيي الدين، ولذلك كان حريصا على نقل أشواقه وأذواقه للقارئ من خلال وصف حصيلة تجربته الروحية كاشفا عن تفاصيلها الدقيقة عبر القصص الإنسانية المثيرة والرائعة التي عاشها، إضافة إلى تصويره لمشاهد درامية من العالم الحديث والمعاصر، ومواقف مؤثرة للأمم والأقوام التي زال مجدها وخفت بريقها واضمحل ذكرها، ولم يبق من تاريخها سوى أخذ العبرة، حيث يوظف المؤلف كل خبراته المعرفية وحصيلة قراءاته الخاصة ليعزز كلامه وأسلوبه ويبني نصا متينا يأسر القارئ ويسيطر عليه.
بدأت رحلة الفيلسوف موسى محيي الدين (إيمانويل لوفين) في بحثه عن الحقيقة منذ شبابه المبكر، عندما كان يعيش بالقرب من فيلادلفيا في بنسلفينيا، وبينما كان الناس يتجهون نحو الحريات المدنية وضد الحرب، كان يتساءل عن أسباب الوجود ويتأمل إشكالات الحقيقة، حيث يقول: “كنتُ أبحث عن الحقيقة التي تنبني على الحقيقة ولا تنبني على الأوهام الزائفة” (من التمهيد)، وفي رحلة بحثه عن الحق والحقيقة التقى في فيلاديلفيا مُعلّمهُ الروحي محمد رحيم باوا محيي الدين، ليصاحبه أربعة عشر عاما حتة وفاته سنة 1986م، ويفصِّلُ المؤلف محيي الدين القول عن معلمه الروحي الذي اعتبره من أولئك الذين أرسلهم الله إلى هذا العالم لتعليم البشرية أن تترقى من الإدراك الحيواني الدنيوي إلى الإدراك العلوي السماوي، كما عدَّهُ شخصية استثنائية، وهو يؤكد في ثنايا الكتاب على ضرورة المعلم الروحي أو “الشيخ” بالتعبير الصوفي في إدراك الحقيقة، يقول: “إذا كنا محظوظين للغاية، سنصادف شخصا يرشدنا إلى الطريق القويم، إذا كنا أكثر حظا، سيكون هذا الشخص يحبنا، يساعدنا، يعدنا بأن يلتقطنا إذا وقعنا على الأرض، شخص يرشدنا ويشير بأصبعه إلى الاتجاه الصحيح، هذا هو الشيخ المربي، الأستاذ الروحي الذي بإمكانه تقاسم حياته من أجل الوجود المناسب للآخرين، يقوم هذا الشيخ بتربيتنا كما لو كنا أطفاله الصغار، يقودنا إلى مقام الإنسان الكامل” (ص: 221-222)، حيث يفصح كلام المؤلف موسى محيي الدين (إيمانويل لوفين) عن انتمائه الصوفي وعشقه للتصوف بل يرى أن التصوف سبيل لبلوغ الحقيقة، وهو إذ يناقش كثيرا من القضايا الجوهرية المرتبطة بالأسئلة الكبرى للإنسان ووجوده ومصيره، يتناولها بكثير من العمق والتأمل الفكري الدقيق والشامل، والذي ينم عن عمق الثقافة وسعة الاطلاع، نلحظ كذلك، أن أسلوبه في التحليل يميل إلى الفلسفة وإلى توظيف البعد المنطقي والاستدلالي بشكل فعال، مما يخدم الإقناع ويجعل بناء النص متينا وقويا، يجعل القارئ متابعا للقراءة منتظرا بشغف النهاية التي ستسفر عنها هذه الرحلة العلمية والروحية المثيرة.
بذل مترجم الكتاب الأكاديمي المغربي الدكتور رشيد عاصم مجهودا واضحا في ترجمة كتاب “إكسير الحقيقة” لمؤلفه موسى محيي الدين (إيمانويل لوفين)، والذي كتب النص الأصلي باللغة الإنجليزية، حيث جاءت لغة هذا الكتاب في ترجمته إلى العربية لغة قوية وواضحة وأسلوبه كان جذابا وجميلا يدل على امتلاكٍ لناصية اللغة العربية وضبطٍ كذلك للغة الإنجليزية ودلالات المصطلحات الفلسفية والصوفية، مما جعل الترجمة تبدو وكأن الكتاب صيغ أول مرة باللغة العربية، في حين هو ترجمة، ولا شك أن هذا المستوى الرفيع من العمل العلمي المتقن، قد احتاج لجهد كبير ومتواصل وكفاءة عالية وبحث متواصل، حيث نجح المترجم الأستاذ الدكتور رشيد عاصم في نقل الكتاب من الإنجليزية إلى العربية بشكل واضح وسلسل جعل من الكتاب في نسخته العربية كتابا عربيا حقيقيا، يمكن اعتباره نموذجا رائعا للكتب المترجمة في العصر الحاضر، يؤسس بلغته الجميلة وأسلوبه المشرق لنوع من التصالح مع الترجمة، ولعل هذا النجاح في ترجمة الكتاب راجع لكون المترجم الدكتور رشيد عاصم قد شغفه موضوع الحقيقة حبا وأخذته تجربة محيي الدين أخذا سافر به في عوالم التصوف وحقائق التجربة الصوفية في أبهى حللها وأسمى تجلياتها، مما جعل كل مجهود يُبذل في سبيل الترجمة يكون هينا من أجل نقلٍ جيّدٍ إلى العربية، ولا شك أن القارئ العربي سيجد في كتاب “إكسير الحقيقة” ما يشبع فضوله المعرفي ويبني منهجه في التحليل الفلسفي والاستدلالي خاصة عند مناقشة قضايا جوهرية تهم مصير الإنسان، يتناولها الكتاب بعمق ووسعة نظر واطلاع كبير بجوانب الحياة وإشكالاتها.
وعلى الرغم من أهمية موضوع كتاب “إكسير الحقيقة” وحجم المجهود الكبير الذي بذله المترجم الأكاديمي المغربي الدكتور رشيد عاصم، إلا أنه كتابٌ يخاطب فئة المثقفين من القراء وقد لا ينفتح على القارئ العادي، نظرا لانتماء معظم القضايا التي يناقشها إلى حقول معرفية إنسانية متباينة، حيث يجمع الفلسفة وعلم الاجتماع وإلى جانب التصوف وعلم النفس.. وغير ذلك من العلوم، ولذلك فهو يزخر بمفاهيم كبرى وشواهد قد لا تكون واضحة عند كل القراء، ومن ثم فقد كان من الأفضل وضع هوامش أو ملحق يتم فيه شرح المصطلحات والمفاهيم الإشكالية مثل الحياة الباطنية والإكسير والحقيقة والمجتمع الروحي.. وغير ذلك، لكن ربما كان سعي المترجم نحو الموضوعية والأمانة العلمية التي تتطلبها الترجمة عائقا دون فتح مجال الشرح، لأن الترجمة أمانة، وعلى القارئ أن يبحث ويقرر بنفسه الاختيار الذي يريد، لكن مع ذلك كانت الحاجة ماسة لوضع معجم يشرح المصطلحات ويضيء بعض العتمات في كتاب ممتع ومفيد مثل “إكسير الحقيقة”، لينفتح على كل القراء متخصصين وعاديين، ولعل الطبعة الثانية المقبلة للكتاب قد تتدارك هذا الأمر المنهجي الذي يخدم فهم النص المترجم وتداوله على نطاق واسع.
إذا كان غياب ملحق بشرح المفاهيم والمصطلحات سببه حرص المؤلف على الأمانة العلمية في ترجمة الكتاب وتعمّده البقاء في منطقة الحياد، إلا أن غياب ترجمة للمؤلف موسى محيي الدين (إيمانويل لوفين) تبدو غريبة، حيث يتساءل القارئ: مَنْ هذا الباحث الذي خاض تجربة صوفية قادته لتأليف كتاب إكسير الحقيقة؟ فقد كان من الممكن أن يتحدث المترجم الدكتور رشيد عاصم في مقدمة الترجمة العربية عن هذه الشخصية العلمية كاشفا بعض أبعادها التي تفيد في توجيه القارئ، لكن يبدو أن المترجم الدكتور رشيد عاصم لم يرد أن يضيف صفحات أخرى قد تزيد من حجم الكتاب خاصة وأنه تجاوز المائتي صفحة، واكتفى بأن يشير إلى الموقع الإلكتروني الرسمي (www.thewitnesswithin.com)، لهذا للمؤلف الباحث موسى محيي الدين لمن شاء أن يتوسع في معرفة المزيد خاصة وأنه ذكر أن الموقع المُشار إليه يتضمن أشرطة خطابية سمعية ومعلومات أكثر تفصيلا عن موضوع الحقيقة كما يراها المؤلف. وعموما يظل كتاب “إكسير الحقيقة” كتابا فريدا في نقل تجربة صوفية لباحث غير عربي، يمكن أن تضيء للدارسين جوانب من التدين عند باحثين وعلماء غير عرب كتبوا في فلسفة الدين، وكيف لعبت الثقافة العربية الإسلامية عموما والتصوف الإسلامي على وجه خاص دورا طلائعيا في البلاد غير الإسلامية، ويحظى التصوف اليوم بإقبال كبير من المثقفين في العالم غير العربي، حيث يمكن الإشارة إلى أن عددا من الأجانب الذين أسلموا وحَسُنَ إسلامهم إنما دخلوا الإسلام من بوابة التصوف.
أخيرا نأمل أن تكون هذه الإضاءة لموضوع كتاب “إكسير الحقيقة” كافية لتشويق القارئ للاطلاع على محتوى الكتاب وتحفيزه لمناقشة أفكاره وقضاياه التي فعلا تستحق التأمل والدراسة، نظرا لصلتها بجوهر المعرفة الإنسانية في بعدها الكوني إذ يخاطب الكتاب كل الديانات والأجناس والثقافات، ويقرر في النهاية أن التصوف الإسلامي ورحلة المؤمن نحو الله هي الحقيقة التي ينال بها المرء الإكسير أو الخلود.