دهشات صغيرة


*بسمة النسور


جميلٌ جداً أن يرتقي شكل الفعل الحياتي اليومي الذي نمارسه، في الغالب، بشكلٍ آليٍّ غير واع، ومن دون أدنى فسحة تأمل، إلى مرتبة الإبداع الفني الخلاق المؤثر، إذا قُيّض لنا بلوغ تلك المرحلة القصوى من الصفاء الذهني، فذلك هو بحق الإنجاز الذي يستدعي الرضى عن النفس غير المطمئنة، في معظم الأحوال. ولكن، القادرة على صنع أسباب الفرح من أبسط الأشياء.

قد ينطوي هذا الطرح على شبهة الترف في ظل اشتداد صنوف الأزمات، في مرحلةٍ قاتمةٍ، موحشةٍ على غير صعيد، نحيا شروطها الجائرة غير مختارين، قد يتأتى لنا ذلك، على الرغم من كل ما سلف، فقط لو توصلنا إلى إدراك أهمية هذه اللحظة الراهنة النفيسة وندرتها، بكل سطوتها وجبروتها، وهي الممسوكة بالحواسّ كلها، كما ينبغي لها أن تعبر في زمننا المجحف هذا. لو جرّبنا التغاضي عن ذلك كله برهةً، وتمكّنا، بقليلٍ من الإرادة، من تحويل سلوكنا اليومي، المعتاد والرتيب، إلى سلسلةٍ من الدهشات الصغيرة التي قد تأخذنا إلى حالةٍ من التوازن والتحقّق، وإلى حد معقول من الرضى عن الذات. لا يتطلب الأمر اجتراح معجزاتٍ كبرى، بل إبداء قليلٍ من التركيز على جمالياتٍ تبدو هامشيةً، واستقبال ما تجود به اللحظة من تفاصيل تبعث على الفرح: 

ابتسامة حبٍّ دافئة رصينة، ولكن، حازمة، لرقيبة سيرٍ جميلةٍ غير متسامحة، يُرهب دفتر مخالفاتها السائقين المشاغبين، تنظم حركة المرور بدربةٍ عالية. ومع ذلك، فإنها تخلق لحظةً لتحذّر فيها، بحنوٍّ أموميٍّ بالغ، طفلةً طائشةً من مغبّة قطع الشارع في الزحام.

صوتٌ ليس رخيماً ألبته لبائع خضراواتٍ غريب الأطوار في قلب العاصمة عمّان، حيث الأسعار”بحال البلاش”، كما يدّعي، زوراً وبهتاناً، عتاولة السوق! إذ يصرّ صاحبنا على ترويج بضاعته بالفصحى المقعّرة، كمحاولةٍ للاختلاف عن بقية الزملاء، واستقطاب عدد أكبر، ونوعيةٍ أفضل من الزبائن. حركشةُ طفلٍ شقي في المقعد الخلفي لباص الحضانة يمدّ لسانه، ويصنع من كفيه الطريتين قروناً صغيرةً، كفيلةً بانتزاع ضحكات العابرين، متمرّساً بزعرنةٍ قريبةٍ إلى القلب خلف زجاج الباص، غير عابئٍ ألبتة بتعليمات “المسّ” حول ضرورة التهذيب وعدم إزعاج الآخرين، وهي الحريصة على سمعة المدرسة ذات الأقساط الباهظة حتماً. 
حوار شيق طريف، في قلب شارع طلال، مع محتالةٍ مسنةٍ خفيفة الظل، تزعم، بشكلٍ مفضوح، معرفةً عميقةً في عالم الطيور، تبيع العصافير الملوّنة، ليس بفعل جنون الطبيعة، بل بعملية تزييفٍ واضحةٍ، مستعينةً بألوانٍ مائيةٍ سريعة الذوبان، غير أنك لا تملك سوى التواطؤ مع احتيالاتها البريئة، في مواجهة زمانٍ غير بريء ألبتة. الاستماع بدون قصدٍ إلى مجريات خلافٍ احتدم بين صبيّتين في مقتبل العمر، حول الحبّ الذي حُسم بأن الحب (مش حرام)، غير أنه يتعبُ القلب. 
تأمل إشراق روح جدةٍ يافعةٍ، وهي تؤكد لحبيب صبا قديم، غير مصدّق، قابلته مصادفةً، بمعية زوجته السمينة، أن الصغير الذي يتململ محاولاً الخروج من العربة التي تقودها، هو حفيدها وليس ابنها. 

توهانٌ مدهشٌ في أروقة مستشفىً، يُفضي إلى ارتباكٍ جميلٍ، إثر التأمل من خلف واجهةٍ زجاجيةٍ واسعةٍ في أولئك الرضّع الطازجين، الطارقين، للتو، بوابة الحياة، المحدّقين حولهم بارتيابٍ شديد، موعودين بالدفء والأمان، وبالحب بلا حدود، من آباء وأمهاتٍ مزهوين بالآتي الثمين. 

لقطاتٌ يوميةٌ عابرةٌ كهذه تمرّ علينا، من دون التفاتٍ يُذكر، غير أن قلةً منا تُبيح لنفسها تذوّق تلك الجماليات، وهذه القلة بالذات وحدها من تتقن مهارات العيش، ومن تحبّ الحياة حقاً، ومن تصنع السبيل إليها، على الرغم من كل شيء. 
______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *