الفن عقيدة إنسانية


هيثم حسين

يكرّر كثيرون أنّهم لا يملكون الوقت للاهتمام بالأمور الثانويّة. ويدرجون الآداب والفنون في إطار تلك الثانويّات التي يتحدّثون عنها، ويستعيدون مقولة محوّرة بأنّه بالخبز وحده في هذا العصر المتوحّش يحيا الإنسان، من دون الالتفات إلى توصيف ذاك الإنسان الذي سيحيا بالخبز وحده، وهل سيكون لائقا بتمثيل الإنسانيّة المنشودة.

أحيانا يبدو المرء غريبا عن محيطه حين يحدّثهم عن ضرورة الالتفات إلى الأدب والموسيقى والفنّ، وصقل الروح والنفس عبرها، لأنّها تمنح المرء سموّا، وتخلق لديه حالة من الرفعة والنقاء والصفاء، لكنّ ذلك يبدو مستعصيا ومتعذّرا في بحر الحروب والصراعات والنزاعات المتأجّجة في العالم، وفي الشرق الأوسط خصوصا.
الأميركية أناييس نن أكّدت في مذكراتها أنّ الفنّ هو عقيدتها الوحيدة، وأنّها لا تؤمن بالسياسة. وتوقن أنّ الفنّان هو الشخص الوحيد القادر على فتح “صندوق باندورا”، وهو يمتلك الجرأة والحصانة لذلك، وأنه عندما يفرغ الصندوق من إحدى أكاذيبه أو أوهامه فإنّه يستطيع ابتداع صندوق آخر وحشوه بموضوعات جديدة، بوسعه أن يضع مرّة أخرى العوالم التي يبتدعها والاكتشافات التي يقوم بها.
ذكرت نن أنّ الكتابة بالنسبة إليها ليست فنّا، وأنّه ليس ثمّة فصل بين حياتها وعملها، وشكل الفنّ هو شكل حياتها الذي هو شكل فنّيّ. وأكّدت أنها ترفض النماذج المصطنعة والقصص التي لا نهاية لها. كما أشارت إلى أنّ موضوعها الأساسيّ هو العلاقات الإنسانيّة، فمن خلالها تستقرئ كلّ التباينات وخفايا الارتباطات في لحظات تفجّرها العاطفي وتأزمها.
أما الفرنسيّة سيمون دو بوفوار فتنوّه ببعض مزايا الأدب، من خلال الحوارات التي تدور بين شخصياتها في عملها “سوء تفاهم في موسكو”، تقول إنّ ميزة الأدب تكون في أنّ الكلمات تخلد الحالات والمشاعر ويحملها الإنسان معه. وإنّ الصور تذوي، تتشوّه، تنطفئ. وتشير إلى أنه سيكون رائعا لو كان الماضي منظرا يتسكّع في داخله المرء على هواه مستكشفا شيئا فشيئا تعرّجاته وطيّاته.
ترسم الفنون أشكال الحياة بالنسبة إلى أصحابها، وهي في حدّ ذاتها تصبح شكلا حياتيا لهم، بحيث أنّ محاولة الفصل بينهم وبين تلك الفنون سيؤدّي إلى اضطرابهم وقلقهم واغترابهم عن أنفسهم وواقعهم، ذلك أنّها هي التي تشكّل مصدر تنفّس لهم، وتكون سببا رئيسا من أسباب تحمّلهم لقسوة الظروف.
تبقى الفنون والآداب مرايا الإنسان لرؤية صوره وأشكاله والتغيّرات التي تجتاح أزمنته وأمكنته، وتمهّد له الطريق إلى إنسانيّته أكثر فأكثر، أما التخلّي عنها أو إقصاؤها فيخلق إرباكا متصاعدا، وخللا متفاقما، قد لا يشعر بهما المرء في البداية، لكنّه حتما سيجد نفسه جائعا، ولو ظنّ أنّه متخم بالمظاهر ومرقّعا بها.
العرب

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *