إماتة الفن السردي


*محمد العباس

تتعرض الرواية العربية لغزو من قبل الناس العاديين الذين صاروا يغامرون بكتابة الروايات بدون أدنى خبرة في تقاليد الكتابة السردية، وهو أمر لم يعد مفاجئاً أو مستغرباً بعد أن صار الأدب ملكة عامة، إذ يمكن لمن يعرف الحد الأدنى من القراءة والكتابة إتيان ما يريد من المنتجات الملتبسة بالإبداع، بعد أن كانت العملية الإبداعية حكراً على سلالة محدودة من الأدباء، وتلك نتيجة طبيعية لجُملة من التحولات المتعلقة بنسيج النص الأدبي الداخلي، وما طرأ عليه من خارجه، وهو الأمر الذي يفسر تهافت معظم النصوص وافتقارها إلى أبسط معايير الكتابة الروائية.

هذا العبث الواسع والصريح بأركان واشتراطات الرواية لا يثبت حضوره على مستوى المنتج الروائي وحسب، بل يأتي مصحوباً بتبريرات ساذجة تحت عنوان التنظير لما يُسمى بالكتابة الحديثة، حيث تبدو الرواية ضحية لذلك الانتهاك الصريح، كما تُلاحظ حالة الارتباك تلك على مستوى الحبكة التي تشكل هيكل الرواية، التي لم يتبق منها في الكتابات الروائية الجديدة إلا شكلها، بعد أن تم إفقارها من قيم توحيد وتوليف وتزمين السرد، حيث صار التفلُّت من اشتراطات الحبكة هو الممر لكتابة رواية فارغة من المعنى وغير مستجيبة لأصول الكتابة الروائية، بدعوى أن الرواية ومنذ نشأتها كجنس أدبي إنما تأسست على قاعدة التبدّل والتطور السريع الذي لا يستجيب لصرامة القواعد، وهي قاعدة صحيحة، إلا أن استخدامها في هذا المقام يأتي في سياق تبرير الرداءة لا تطوير الفعل الروائي.
إن الفهم الواسع والمرن لمفهوم الحبكة هو الذي أدى إلى ذلك العبث بالرواية من خلالها، كما أن الرغبة المعلنة عند معظم كتاب الرواية الجُدد في التخفُّف من النزعة التعليمية التي تكتنف التنظير للرواية هو الذي حفزهم على تهديم هيكل الرواية المتمثل في الحبكة، وهي دعاوى لا تنم عن وعي بتحديث الخطاب الروائي بقدر ما تُفصح عن ركام هائل من مبررات العجز والرغبة في التنصُّل من مستوجبات النصاب الأدبي، فكل عناصر السرد تتبع الحبكة وترتكز عليها، بما في ذلك الشخصيات، مع وجود هامش على درجة من الاتساع في الفعل الروائي الحديث لشخصيات على درجة من الثراء والتعقيد قابلة للتمدُّد على حساب مركزية الحبكة.
ولكن الملاحظ أن بعض الروايات التي بالغت في انتهاك الحبكة والتقليل من شأنها لصالح الشخصية لم تتأمل تعقيداتها بما يكفي لتتعادل مع الحبكة، كما تفترض الكتابة الروائية الأحدث، إنما جعلت الشخصيات تتحرك في خطوط أفقية متوازية بدون أن يلتئم مصير أي من الشخصيات داخل عقدة تحفظ للرواية حرارة التوتر الدرامي، كما يفترض أحد أهم تعريفات الرواية، بمعنى أن الروايات التي نحت هذا المنحى جعلت من الحياة والرواية لوحة بانورامية منبسطة خالية من المنعطفات والتوترات، التي تعمل بدورها على تشكيل الشخصيات وتلوين مصائرها، مع وجود إجابة جاهزة عند المنفعلين بهذا النوع من الكتابة مفادها أن الحبكة لم يعد لها ذلك الدور التقليدي الراسخ مقارنة بالشخصية التي تعادل اليوم صراحة شعار الفردانية بكل إسقاطاته على الخطاب الروائي.
وهناك من اتخذ من الحدث مدخلاً لتفكيك سطوة الحبكة، على اعتبار أن ما يُصطلح عليه بالحدثية هو الذي يمثل ويعكس اللحظة الاجتماعية ببناها الظاهرة والخفية، وبالتالي فإن تحبيك الواقع تشوبه حالة من الافتعال، التي تدفع بالكتابة الروائية إلى الوراء، أي إلى اللحظة الأرسطية بكل صرامتها التقليدية المتمثلة في المحاكاة، وكأن الحدث بكل ما فيه من تشابكات يمكن أن يعمل بمعزل عن الحبكة التي تتداخل بقوة وفاعلية مع كل مجريات الحدث، فالحبكة ليست هي ذلك الإطار الضيق الذي يحد من تدفق الأحداث وتتاليها وتعقُّدها، بل العكس هو الصحيح فهي بنية فكرية على درجة من الاتساع والمرونة والتنظيم لضبط تصاعد الأحداث ونمو الشخصيات على حد سواء.
وعندما توصف اليوم رواية ما بأنها رواية حدث أو شخصية فإن هذا لا يعني أنها ضد فكرة الحبكة، أو أنها يمكن أن تكون مقدمة للإجهاز على مفهوم الحبكة داخل العمل الروائي، لأن توسيع مفهوم السرد وابتكار طرائق جديدة للكتابة الروائية، لا يعني أبداً موت فكرة التحبيك تحت أي ذريعة، فمن يستدعي شخصيات هائمة متمردة على اشتراطات الحبكة، ومن يجعل من روايته سلسلة متوالية ومبعثرة من الأحداث بدون حبكنة، بدعوى تكسير قوالب السرد والاستئناف من لحظة كتابية حداثية مغايرة، فإنه لا يطور شيئاً في الكتابة الروائية بقدر ما يكشف عن عجز صريح في ما يتعلق بوعيه الكتابي، وهو الأمر الذي يبدو حاضراً في معظم الروايات المكتوبة بذهنيات عادية لا تمتلك في داخلها ما يمكن تحبيكه ليتصعّد بنائياً إلى مستوى الرواية.
هذا هو ما يفسر ذلك الركام الهائل من الروايات التي لا يعرف كُتّابها عن الحبكة إلا كونها المخطط الشكلي للأحداث، حيث نلمس وجود المسار أو الخط السردي الباهت الذي لا يشد كل عناصر السرد داخل بنية مقنعة، أو هكذا تم اختزال الحبكة وظيفياً ودلالياً في خيط سردي شكلي، تحت عنوان التجريب أو الاجتراء على زعزعة أركان الرواية، وهي إجراءات تم اعتمادها وتجريبها في الرواية الغربية منذ زمن بعيد لتغيير مواضعات الكتابة الروائية، إلا أنها هناك لم تتم بواسطة الناس العاديين الذي لم يعبروا مخاض الكتابة التقليدية، بل عبر رحلة طويلة أسهم فيها كُبار الروائيين وهي مثبتة في أطلس الرواية العالمية على مستوى النص والتنظير.
إن من يقول من كُتّاب الرواية الجدد بضرورة العودة إلى بساطة اليومي كتيار حياتي أدبي يفرض رؤيته وسطوته على الرواية، ينبغي عليه ألاّ يتجاهل الواقع المحبكن أصلاً، وهذا هو ما تفترضه أساسيات محاكاة الواقع، أما أن نقلد جانباً من الواقع الساذج ونحاكيه برواية سطحية لا تأبه لمتطلبات البنية الدلالية، رهاناً على سذاجة البنية الشكلية، فهذا اجتراء فيه الكثير من الخيانة للنسيج الحياتي، لأن التسجيل الفوري والعفوي لمجريات الحياة لا يخلو من حبكات، وتوسيع مفهوم الحبكة لا يعني إلغاء صيرورتها، وكل الوصايا المتعلقة بالتقنية السردية تؤكد على أن الأحداث والشخصيات لا تنتظم إلا داخل حبكة، وبالتالي فإن أي كتابة تتنازل عن الحبكة فهي إنما تتنازل عن الكتابة الروائية. كل محاولة لكتابة رواية بدون حبكة تعني تقديم الواقع بكل بعثرته وتشظيه وعدم اتساقه، بمعنى عرض تجربة تعبيرية قد تكون على درجة من الوفاء لعفوية الحياة المعاشة الخالية من التعقيد، وهي مغامرة قد تتوقف عند حافة نسخ الواقع، ومحاكاة فوضى الحياة بنص فوضوي لا ينتظم داخل بنية زمنية، وهنا مقتل معظم الروايات الجديدة، فهي منذورة لفكرة التصوير الشكلي لحياة فئة من الناس العاديين الذين لا تتضمن يومياتهم أي أثر من المعنى، وفي الأغلب هي حياة هؤلاء الكُتّاب وما يحيط بهم من بشر وحكايا مدلوقة داخل نص يتمسح بالرواية، وكأنهم يمارسون هواية إماتة الفن السردي تحت عنوان كتابة الرواية.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *