عاطف أبو سيف
كانت الشمس مثل برتقالة تغطس في البحر وكانت سفن الصيادين قد بدأت في الاختفاء خلف العتمة. خرج الناس من صلاة المغرب، كان الغبار ينتشر في سحابات منخفضة، وكان صوت الرجل ذو الكرش البطيخة من تلفاز الجيران يتحدث عن البطولة وتحدي الجدار ويقول أشياءً كثيرة مشفوعة بآيات القرآن وأبيات الشعر من دون أن يذكر شيئاً عن معاناة الناس.
غاص المخيم في العتمة حيث أن الكهرباء لم تزر بيوته منذ يومين. فقط حين بدأ باب البيت بالطرق جاء ضوء صغير من خلف الباب متسللاً من فتحاته الجانبية، كان الطارق يخبر “درويش” بأن والده قد مات.
مات أبو درويش. مات وحيداً أيضاً. عاش السنوات العشر الأخيرة من حياته وحيداً. رفض كل توسلات درويش أن ينتقل للعيش معه، “على الأقل بنسلي بعض”، رد عليه بأنه يتسلى بسماع الأخبار. كان أبو درويش مدمناً على سماع الأخبار. له عادتان: الحديث عن يافا وسماع نشرات الأخبار. أما عادته الأولى فهو بارع فيها، يتحدث عن الميناء وليالي الصيد والسينما التي اعتاد أن يأخذ أم درويش عليها حين كانا خاطبين وبعد زواجهما.
كان يذكر جيداً قاعة السينما ودرجاتها الأسمنتية. كان يجلس أمام بيته إما يتذكر تلك الأيام مع مجايليه أو واضعاً الراديو قرب أذنه فيما تعبث أصابعه المرتجفة بمؤشر الراديو قبل أن يستقر على محطة. وكانت المحطات التي يستمع إليها أبو درويش قليلة ويعرفها من صوت المذيع. كانت أصابع يديه قد صبغت بالأصفر الباهت المشوب بالاخضرار من كثرة ما كان يلف التبغ، سيجارة وراء سيجارة، ويسعل ويصدر صوتاً حاداً. لم يكن ليغير عادته تلك.
كانت الحياة تعني له أشياءً قليلة لكنها تلك الأشياء التي دفنها خلفه في الماضي حين ترك البيت في يافا وحمل أطفاله ولجأ إلى غزة، ثم قبل أن يتركه أولاده كلهم إلا درويش ويختاروا المنافي البعيدة. كان يعتب عليهم كثيراً وكثيراً يشعر بالسخط أنهم تركوه وحيداً، اختاروا المنافي البعيدة، تحججوا بالتعليم والعمل، لكنهم لم يعودوا.
في المرات القليلة التي كانوا يعودون فيها في الصيف إلى زيارته مصطحبين أطفالهم كانوا يعدونه بأنهم في المرة القادمة ربما سيبقون بجواره ولن يتركوه، لكن هذه المرة عليهم إنجاز بعض الأعمال. ومنذ خمس عشرة سنة لم يعودوا يعودون. اكتفوا بالرسائل التي يبعثون بها له ويقرأها له درويش بعد أن ضعف بصره ولم يعد بمقدوره قرأتها.
درويش اختار أن يظل في غزة. كان يقول له:
“فيك الخير”
ثم يستطرد
“يعني بكفى طلعنا من يافا وصار فينا اللي صار، وين بدنا نروح”.
ثم يهز رأسه بمرارة قبل أن يواصل:
“بس انشا لله يكونوا إخوتك مرتاحين برا في البلاد اللي هم فيها”.
ورث درويش من أبيه هذا الصمت الغامق الذي رغم عمقه لا يتحول إلى الأسود، كان يترك بصيصاً من اللون الأبيض في القاع سرعان ما يسعفه ببعض الأمل. أمل يكفيه لأن يبتسم رغم كل شيء. رغم هذا فإن نشرات الأخبار التي بقي أبو درويش يسمعها طوال خمسين سنة لم تجلب له حسن الحظ، كما لم تجلب له خبراً سعيداً واحداً. هكذا كان يقول وكان يهرب من سوء القدر هذا بحكايات عن يافا يرتق بها شباك الحاضر عله يصطاد لحظة فرح، ولو كانت قديمة.
هكذا مات أبو درويش، وحيداً. ربما بصحبة الراديو، ربما بصحبة حكاية قديمة كان يتذكرها، ربما ببسمة أمل كان يحاول رسمها، أو أمنية كان يعاود الإمساك بها بأن يعود أبناؤه أو يرجع هو إلى ماضيه الجميل، لكنه مات هكذا …
التمّ أهل الحارة على درويش يعزونه بوالده، قفزت الدمعات من عينيه، انتحى جانباً وأخذ ينتحب، بلل الدمع خدوده وشفتيه. نظر إلى بيت والده ذي الغرفتين حيث عاش طفولته. دخل البيت وأحكم إغلاق الباب. كان صوت الناس المتجمهرة يقول أشياءً كثيرة من باب اتركوه يفضفض عن حزنه.
كان والده مسجى في الغرفة الكبيرة اصطلاحاً لتميزها عن الغرفة الأخرى، أو الغرفة الشمالية كما كان يفضل أبو درويش تسميتها. كانت عيناه مازالتا مفتوحتين وعلى الطاولة الخشبية القديمة ينام الراديو بلا حركة ولا صوت، فقط ثمة صوت لصنبور ماء ينز قطرة قطرة. قام درويش إلى الحمام وأحكم إغلاق الصنبور بعد أن مسح وجهه بالماء وخرج للناس.
عند صلاة العشاء خرج موكب الجنازة من البيت إلى الجامع الكبير ليُصلى على “أبو درويش” ثم إلى المقبرة قرب حقول الشوك في طريق البحر. صار الموكب بصمت إلا من صوت أحدهم يدعو الجميع إلى ذكر الله من وقت لآخر. بدأت رائحة أشجار الشوك تقول إن المقبرة قد اقتربت. أشعلوا المصابيح الكهربية المحمولة ليتمكنوا من دفن الميت ثم موعظة ارتجلها شاب من العائلة ثم عاد الجميع أدراجهم إلى بيت أبو درويش حيث أُتفق أن ينصب بيت العزاء في شارع الحارة في الصباح.
“في الصباح رباح”
هكذا قال المختار ثم طلب من الجميع أن ينصرفوا ليتركوا “درويش” يرتاح قليلاً.
لم ينم. كانت النسوة يجلسن مع ابنته ليلى وطفله يواسونهم، وكن يتشحن بالسواد ويضعن أيديهن على خدودهن، وليلى واجمة تعرف الحزن ولا تعرف كيف تتحمله، هكذا انهارت بين يدي والدها حين دلف إلى الغرفة.
في الليل أخذ يقلب دفتره الصغير يبحث عن أرقام إخوته ليبلغهم بموت والدهم. لم يهاتفهم قط. كانوا هم من يتصلون به وبوالده عبر الاتصال ببيت المختار الذي كان أول من امتلك هاتفاً في الحارة. كانوا دائماً يتركون أرقام هواتفهم في أسفل كل رسالة يرسلونها. تناول آخر الرسائل ونقل عنها الأرقام. ذهب لبيت المختار ليهاتفهم. باءت كل محاولاته بالفشل إذ أن الأرقام كانت تعطي رنيناً من دون إجابة، قال لنفسه ربما غيروا أرقامهم أو انتقلوا إلى بلادِ جديدة فهم كثيرو التنقل. طمأن نفسه بأنه سيخبرهم حين يتصلون به في المرة القادمة.
نظر إلى راديو أبيه.
ربما الشيء الوحيد الذي لم يرثه درويش من أبيه هو شغفه بالأخبار. درويش لم يكن يحب أن يسمع الأخبار، لا يذكر أنه جلس وحده يوماً يستمع لنشرة أخبار. فقد يفعل ذلك حين تستمع ليلى ابنته لها، أو كان يفعل ذلك حين كانت آمنة تقلب التلفاز الأسود والأبيض تنتظر مسلسل المساء بعد نشرة الأخبار على القناة الأولى المصرية. أما هو فلم يكن يستمع من ذاته لنشرة أخبار.
أخذ يتأمل الراديو القديم الملفوف بغلاف جلدي بني اللون. حاول تشغيله فلم يفلح. يبدو أن بطاريته فارغة. لم يهتم كثيراً بالسبب، قرر وضع الجهاز فوق الخزانة ليظل ذكرى من والده. ليس بحاجة لسماع الأخبار أو انتظارها مثل والده الذي مات من دون أن يأتيه مؤشر الراديو بمحطة تفرحه حقاً “من مأساة لمأساة ومن حزن لآخر” ولم يزهق أبو درويش. أما درويش فليس بحاجة لذلك، يكفيه أن يحتفظ بالراديو ذكرى من والده، أما الأخبار الجيدة فليست بحاجة لنشرة أخبار لكي تصل.
العربي الجديد