منافي الرّب رواية في مديح الحياة



*باسم سليمان

خاص- ( ثقافات )

إذا كان الأسد مجموعة من الخراف المهضومة، فالرّواية هي مجموعة من القصص المهضومة في عقل الرّاوي السّردي ولأنّ “إذا” أداة شرط غير جازمة، فلابد لجوابها أن يقترن بالفاء؛ لتصبح شرطيتها مكتملة، هذه أل” فاء” هي القدرة التخيلية للكاتب، إنّها انتقال الخيال من تداع حرّ إلى فعالية إرادية بدخول أل” تاء” الدالة على الجهد الفكري لإيجاد برزخ بين الواقع والخيال كلّ منهما يمارس رغبة احتلال الآخر الذي يمكن أن نطلق عليه اسم، الرّواية، فظهور الرّواية توافق مع سقوط النظرة الكلاسية للعالم وابتداء النظْرة الفاعلة فيه ومن هنا نقول، إنْ كان الخيال فعلا ميتافيزيقيا، فالتخييل فعل فيزيقي بجدارة، أنّه تأريض الخيال في الواقع، هذه الأرْضَنة ” من أرض” جعلت للرّواية الباع الأكبر في تمثّل العالم ومحاكاته لا كخطٍ موازٍ بل أقرب لبعد الزّمن، مكمِّل الأبعاد الثلاثة الفيزيقية، فالإنسان لا يدرك خلقه الذي لم يشهده إلا عبر القصّ الآتي من زمن غير متعين سواء بمكانه أو شخوصه هكذا نستطيع القول: إنّ الرواية هي مساءلة قضية خلق الإنسان وموته الذي لم يشهد خلْقَه ولن يشهد موته.
منافي الرّب:
رواية “أشرف الخمايسي” التي تعالج غواية الشّيطان لآدم ” هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى” – قرآن كريم – فسؤال الخلود الذي شغل الإنسان دفعه إلى اجتراح العديد من الوسائل ، أولها الخطيئة التي هبط بها إلى الأرض والتحنيط ليس إلّا أحد الوسائل العديدة لإبعاد شبح الموت عنه، ف “حجيزي” الشّخصية الرئيس في الرّواية الذي أيقن أنّ الموت لا محالة قادم وخاصة بعد منامه الذي يعطيه ثلاثة أيام ثم يموت ويلحق برفيقه” سعدون” إلى القبر، يعرف أنّ الاشتغال بأرض الموت هو الحلّ الوحيد للبقاء في أرض الحياة وخاصة إنّه يمارس تحنيط الحيوانات تلك المهنة التي ورثها عن أبوه ” شديد الواعري” ، فيفكر بطريقة، تنجيه من الدّفن بما أنّه لا محالة ميت. كان الإغريق يقولون عن الذي يحتضر: ألقى نظرته الأخيرة وهذا ما فعله ” حجيزي” فنظرته الأخيرة كانت إعادة سرد لحياته وحيوات صديقيه ” غنيمة وسعدون” وأهل واحة الوعرة والراهب “يوأنّس” وهنا لابد من القول إنّ الراهب” يوأنّس” كان يسعى عكس ” حجيزي” إلى الفناء والدّفن لأنّ قيامة وحياة أخرى تنتظره تحت ظلّ السيد المسيح، فالراهب هو المعادل العكسي ل” حجيزي” بل أنّ كل منهما مرآة للآخر.
إنّ المقاربة الدلالية، الجناسية الصّوتية، التضادية بين ” حَجَزَ” و” جَوَزَ” تعطينا الإشارة، فَ ” جوز” تعني سمح والراهب ” يوأنّس” فيها من الإنس الكثير، الإنس الذي يسعى إليه ” حجيزي” بعد موته عن طريق عدم دفنه وهكذا نجد أن كلّ من ” حجيزي ” والرّاهب يعمل بالتضاد مع اسمه إلى أن تقودهما سيروتهما إلى التصالح، ف” حجيزي” يقبل الدّفن بعد أن يقدّم ” المعزي” التعليل لسؤال ” حجيزي” كيف سيخلد!؟ الذي وعده به السّيد المسيح والرّاهب أيضاَ يصل للتصالح مع نفسه بعد أن يحرّره السيد المسيح من المنفى الذي اختاره بنفسه بالابتعاد عن الحياة.
استكمالا للانعكاس بين ” حجيزي ” والراهب لابدّ من التوقف عند امرأة كل منهما، ف”سريرة” زوجة حجيزي التي لم يقاربها إلّا ثلاث مرات في حياته وأنجب منها ابنه الوحيد، انشغالاً منه بالتحنيط والبحث عن حلٍ ينجيه من الدّفن. لقد قام “حجيزي” بنفي زوجته عن الحياة فيما قام الراهب بقتل ” سيرين” التي حاولت غوايته، فَ ” سيرين” نجدها في ” السيرينيات” التي واجههن عوليس في تيهه، فطلب من بحارته تقيده إلى سارية السفينة ليستمع إلى غوايتهن دون أن يلقي بنفسه إلى الماء والموت وهكذا فعل الرّاهب، فلكي لا يقع بغواية ” سيرين ” قتلها وبنفس الطريقة فعل ” حجيزي” ب ” سريرة ” التي رفضت العديد من الرجال لأجله ودلالة “سريرة” التي تعني الأفكار المضمرة للشخص، ف”حجيزي” الرافض لزوجته والسّاعي إليها بنفس الوقت، بنفيها، نفى حياته، لذلك يأتي ” المعزّي” في لحظة الموت على حصانه وخلفه أنثى تمور بالحياة.
إنّ الخوف من الحياة والتعلق الشّديد بها جعل كلّ من ” حجيزي” والرّاهب يقاربها من نقيضها الذي هو الموت، لكن عندما تأتي لحظة الموت يكتشفان أنّ الحياة لا تقارب إلّا بالحياة.
إنّ المراقب لتطور الفنون يجد في أساس الفنون، الموت، فدفن الجّثّة المتفسّخة، دفع الإنسان لفن النّحت وبناء الأضرحة والبكاء جعله ينشد الرثائيات وتخليد ذكر الموتى جعله يصنع الأقنعة والرّسوم وبالتالي نجد أنّ خوف” حجيزي ” من الموت والدّفن دفعه إلى سرد حكايته التي ستكون سبباً لخلوده، هكذا يلعب الموت في قلب الحياة ليزيدها أواراً واشتعالاً كما تلعب الحياة في قلب الموت لتجعله أكثر جمالاً، فالوجود لا يقوم إلّا على ساقي الموت والحياة والتقدّم فيها لا يكون إلّا بهما.
الرّاوي العليم والسّخرية التهكمية :
إنّ الاشتغال الفلسفي والأسئلة الميتافيزيقية التي تنضج في الرّواية شيئاً، فشيئاً، لم يكن بإمكان شخصيات الرّواية ك” حجيزي- سعدون – غنيمة” القيام بأعبائها، فتكفّل الرّاوي العليم بذلك، هذا التضاد أتى بشكل إيجابي على سرد الرّواية، فتساؤلات شخصياتها البسيطة، لكنّها من النوع السّهل الممتنع أعطى للشخصيات واقعية متجذّرة في صلب الحياة ونجّاهم من سيطرة الرّاوي العليم فأنتج ذلك السّخرية والتهكّم على ألسنة شخصياتها وهم يعلّلون قضايا الحياة والموت وبنفس الوقت جعل منحى الرّاوي العليم مرتاحاً لقيادة دفّة السّرد، فأنتج تناغماً وخاصة أن نبوءة “المعزّي” تجعل من الرّاوي العليم شخصية من شخصيات الرّواية عبر قصّ حكاية ” حجيزي” السّاعي للخلود بعدم دفن جثّته.
الوعرة الفضاء الزمكاني:
الواحة التي تدور فيها الرّواية كانت أحدى شخصيات الرّواية الرئيس كما ” حجيزي” فالواحة التي لا يصلها بالمدنية إلا خطّ تجتازه الجمال جعلها في منجى من التأثيرات وظلّت بكراً بأسئلتها حول الحياة والموت وبنفس الوقت قدّمت منظراً طبيعياً جمالياً مع عاداتها التي قدّمها الرّاوي بدراية المحايث والمدقّق والعارف بتفاصيلها وخاصة أنّه ابن الجنوب المصري.
الفاء الرّابطة لجواب الشّرط:
التخييل فعالية إنسانية ونستطيع القول في أحد تعاريف الإنسان: إنّه كائن يمارس التخييل كأسلوب اكتشاف للحياة وترويض لها والتناغم معها، فالتخييل هو البرزخ الذي من الممكن جمع الميتافيزيق والفيزيق دون التابوهات والمقدسات وهذا ما نجده في الرّواية في مقارباتها للمقدسات الإسلامية والمسيحية وحتى العرقية كالعرب والعثمانيين والمماليك، فثيمة، رفض الدّفن التي يرغب بها ” حجيزي” تدلّ على رفض النهايات الحتمية للذي ثبت عليها النّاس وفتح الحياة على آفاق جديدة تتجاوز حتى الموت وساعتها ماذا تعني العادات والتقاليد وأخلاقياتها البائدة أمام من أراده الله خليفته على هذه الأرض أيّ الإنسان، فالرّواية في بحثها عن جوهر وجود الإنسان تقدم حلّها بأن يكون الإنسان ربّ هذا الأرض متمثلاً كما يليق بأن تكون الآلهة. 
منافي الرّب، رواية للروائي المصري أشرف الخمايسي وصلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر لعام 2014، رواية تستحق القراءة بجدارة صادرة عن دار الحضارة. 
________
*روائي وناقد سوري

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *