ضحايا “العظيم” يوسف ادريس


شعبان يوسف


لم يصعد يوسف إدريس من فراغ عندما ظهر على الساحة القصصية في مطلع خمسينيات القرن الماضي ،ولم يأت من تيه أدبي مجهول أو متواضع على مستواه الثقافي والسياسي والفكري الخاص به ،والعام بالنسبة للحياة الثقافية والسياسية والفكرية في مصر ،وهذا على مدى عقود منذ بداية القرن العشرين ،الحافل بالإنجازات الثقافية والفكرية.

ولا مجال بالطبع هنا لاستعراض الإنجازات المهولة التي أحدثها المثقفون والكتّاب والمبدعون على مدى سنوات القرن العشرين، منذ كتابات قاسم أمين عن المرأة ،والدفاع عن كينونتها كإنسان حر أولا ،ثم المطالبة بكافة حقوقها المهدورة تحت مزاعم دينية متطرفة ومغلوطة ، ثم كتابات الشيخ محمد عبده ،ومحاولاته الشجاعة لإرساء دعائم تأويلات عقلانية للدين الإسلامي ،مما أثار عليه المؤسسة الرجعية ،والتي تدعم بشكل مباشر السلطات ،وتحيا في خدمتها ،وهذه المؤسسة االرجعية التي تعيش في ظل الدولة ،عملت على مناهضة كل ما أتى به محمد عبده ، ثم جاء بعده الشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين واسماعيل أدهم واسماعيل مظهر ومحمد فريد وجدي ومحمد حسين هيكل وخالد محمد خالد، ليؤصلوا ويعمّقوا ماجاء به محمد عبده.
وإذا كان ذلك على مستوى الفكر والتأويلات الدينية ،فهناك في القصة والرواية ،كانت إنجازات لا تقل عن الإنجازات بأي شكل من الأشكال ،فكان الدكتور محمد حسين هيكل هو الأب الأول للرواية المصرية والعربية ،ولا يشغلنا هنا ماكتبته أقلام أخرى قبل أن ينشر روايته “زينب”عام 1914،وكان قد نشرها أولا بتوقيع “مصري فلاح”،خوفا من طغيان صفة الأديب على صفة المحامي ،ولكنه بعد رواج الرواية ،وأثرها الواضح في الحياة الثقافية والأدبية ،نشرها وكتب علي صدرها اسمه مفتخرا بإنجازه ،وسعيدا به.
وجاء بعده الكاتب محمد تيمور في مجال القصة القصيرة ،وكتب أول قصة مكتملة عام 1913،ولكن القصة الأولى المكتملة له ،والتي انتشرت وعرفت بشكل واسع ،وتركت أثرا واضحا في قرائها ،كانت قصة “في القطار”،والتي نشرها عام 1917،ثم نشرها بعد ذلك في مجموعة “في المرآة”،وبعده توالت الكتابة في هذا الفن الجميل ،وحاول كتّاب هذا النوع من الفن ،أن يخلّصونه من النزعات المتأثرة بالطابع الأوروبي ،وحاولوا تمصيره وتعريبه ،وإبداعه بروح مصرية خالصة وعميقة ،وفي تلك الفترة ،برزت أسماء مهمة على مستوي هذا الفن ،وعلى رأس هذه الأسماء كان شحاتة وعيسي عبيد وابراهيم المصري وحسين فوزي ومحمود طاهر لاشين ومحمد أمين حسونة وأحمد خيري سعيد ومحمود تيمور وحسن صادق ويحيى حقي وغيرهم.
كان هذا هو جيل القصة القصيرة الأول ،والذي ترك بصمات واضحة في بنية وروح هذا الفن ،وجاء بعده جيل مابعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ،والذي شمل أعلاما مهمة مثل سعد مكاوي وعبدالرحمن الخميسي ومحمود البدوي ومحمود كامل المحامي وحسين العقاد وأمين ريان وعباس خضر وسهير القلماوي وأمين يوسف غراب وغيرهم.
حتي جاءت الخمسينيات ،وحفلت بأسماء كثيرة ،وقدمت طفرة فعلية في القصة القصيرة ،وتجاوزت إشكاليات كثيرة علي مستوى الكتابة ،هذه الإشكاليات التي كانت تغرق بعض القصص في الرومانسية الفضفاضية ،لدرجة أنها تدفع القارئ إلى حالات من الإملال والضجر ،لذلك كانت أربعينيات القرن الماضي مدرسة لتخريج دفعة جديدة من كتّاب القصة القصيرة، وكان على رأس هذه الدفعة العبقري محمد يسري آحمد ، وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف ادريس ويوسف الشاروني وادوار الخراط ومصطفي محمود ومحمد صدقي وبدر نشأت وصلاح حافظ ومحمود السعدني وعبدالله الطوخي وفاروق منيب ونعمان عاشور وألفريد فرج وصبري موسي وسليمان فياض وغيرهم.
وبالفعل أصدر بعض هؤلاء مجموعات قصصية في عقد الخمسينيات ،فكانت “العشاق الخمسة” ليوسف الشاروني عام 1954، و”عم فرج” لنعمان عاشور 1954،و”أرخص ليالي” ليوسف ادريس 1954، ثم توالت على مدى العقد مجموعات قصصية “السماء السوداء” ثم “جنة رضوان” لمحمود السعدني ،ثم “مسا الخير ياجدعان” لبدر نشأت ،ثم “الأنفار” لمحمد صدقي ،و”أرض المعركة” لعبد الرحمن الشرقاوي ،و”كل عيش ” لمصطفى محمود ،و”أرزاق ” لسعد الدين وهبة ،وهكذا يعتبر عقد الخمسينيات عقدا لتفجر فن القصة القصيرة بامتياز وتوهجه.
وحدث أن برز اسم يوسف ادريس بشكل لافت ،ولا يباريه أحد بأي شكل من الأشكال في هذا الحضور ،كان ذلك عندما قدمه عبد الرحمن الخميسي في جريدة “المصري” عام 1952،وقد كان نشر بعضا من قصصه في مجلات “القصة” و”قصص للجميع”، ثم مجلة “روز اليوسف”،وظل اسمه يكبر وينتشر ويجدّ بقوة ،حتي أن جعلته مجلة روز اليوسف مشرفا علي باب “القصةالقصيرة”،وكان هو الذي يقرر أي القصص التي تنشر ،وذلك منذ عام 1953.
والطريف في الأمر ،أن عبد الرحمن الخميسي الذي قدمه عام 1952 ،وجد نفسه يحتاج لكي يقدمه أدريس عام 1953، بعد أن صار اسم يوسف ادريس ملء السمع والبصر ،حتي قبل أن يصدر مجموعته الأولي ،فكتب ادريس مقدمة لمجموعة “قمصان الدم” القصصية للخميسي ،التي صدرت عام 1953،ويكتب إدريس في تلك المقدمة “كانت القصة القصيرة قبل الخميسي وقفا على طبقة معينة من الناس يكتبونها ،وطبقة معينة يقرأونها ،وكان من أدوار الخميسي الخطيرة أن حطّم طبقية القصة ،فأصبح ذا تجربة يكتب ،وكل ذي حياة يقرأ ،وصار البقال والكمساري ،والصراف والبواب ،من قراء المصرية ،وكذلك اتجه المثقفون إلى حياتنا في قصصه”..هذا اقتباس قصير من تقديم طويل ،للتلميذ الذي سبق أستاذه، بفعل عناصر كثيرة ،منها المعلوم ،ومنها المجهول الذي تكوّن في قنوات سياسية بعينها،
كانت التيارات اليسارية في ذلك الوقت تعمل علي قدم وساق لمؤازرة الثورة بشكل واضح وكبير ،وكانت الثورة كذلك وقياداتها يتعينون بكتّاب ومبدعي وصحفيي اليسار في صياغة خطاب ثقافي مقبول ومستنير وتقدمي ،فاستعانت بكتّاب وفنانين من طراز الفنان حسن فؤاد والفنان زهدي والشعراء فؤاد حداد وصلاح جاهين وصحفيين مثل محمد عودة وأحمد عباس صالح ، وكان بعض هؤلاء يزاوجون العمل بين المجلات الرسمية ،والتي تعبّر عن وجهة نظر السلطة أو الثورة في ذلك الوقت ، وبين المجلات الخاصة المستقلة ،وكان هناك حسن فؤاد النموذج الأبرز في تلك السمة ،ففي الوقت الذي كان يعمل مع أحمد حمروش في إصدار مجلة “التحرير”،ويشرف عليها فنيا ،كان كذلك يصدر مجلة “الغد” المستقلة والخاصة ،والتي تعبّر عن وجهة نظر اليسار بشكل خالص.
وبالطبع كان يوسف ادريس ،الذي كان يضمه مكتب “الأدباء والفنانين” في منظمة حدتو مع حسن فؤاد ،فتنشر له مجلة “الغد” قصة “أبو سيد” في عددها الأول ،كما تنشر له مجلة “التحرير” قصة “خمس” ساعات،ولم يبد أي من هؤلاء الكتاب أدني تحفظ علي ذلك الأمر ،إذ أن هناك علاقة نفعية بين الطرفين ،والنفعية هنا ليست علي المستوي الشخصي ،بقدر ما هي نفعية علي المستوي الثقافي والفكري والسياسي ،فيوسف ادريس ينشر قصصه في مجلات الدولة ،والدولة تستوعب يوسف ادريس حتي تضمن سكوته بشكل أو بآخر.
ويوسف ادريس الذي كان يسكت علي المستوي الصحفي في كثير من الوقت،لم يكن يسكت أبدا في تلك الفترة علي المستوي الإبداعي ،فكتب قصصه الثائرة ،والمكتوبة بشكل يصل إلي حدود فنية كبيرة ،وأحدثت هذه القصص نقلة حقيقية في الكتابة القصصية ،والإبداع عموما، وبعد إصداره مجموعته القصصية الأولي “أرخص ليالي”،انفجرت بالفعل نظرات نقدية مختلفة ،فرحب به اليسار ،بداية من علي الراعي وأحمد عباس صالح ومحمود أمين العالم ومحمد مندور وغيرهم ،هاجمه آخرون مثل عبد المنعم شميس وأنيس منصور وغيرهم ،وبالمناسبة ظلت حالة الشدّ والجذب هذه علي مدي حياته كلها ،وكان يوسف ادريس محل تقديس تارة ،ومحل هجوم تارة أخري ،ولم تكن حالة أنيس منصور البداية، كما لم تكن حالة محمد عبدالحميد رضوان وزير الثقافة الأسبق نهاية ،أقصد في حالة السب والتطاول،ولكن قبلهما وبينهما وبعدهما تعرض ادريس لحملات شرسة ومغرضة لتشويهه.
كانت مجموعته “أرخص ليالي”،البوابة الكبرى التي دخل منها يوسف ادريس إلى ساحة المجد ،وعندها توقف نقاد كثيرون ،وكتبوا مقالات ودراسات ،وعقدوا ندوات ومناقشات ،وبدأت الدولة نفسها تلتفت لهذا الصوت الذي صعد من بين كافة الكتّاب بهذا الشكل العملاق ،فيوسف ادريس ذو السبعة والعشرين عاما ،استطاع أن يهزّ عرش الثقافة في ضربة زمنية قياسية ،وكأننا لم نقرأ قصة واحدة لكاتب مصري من قبل ،وأصبح الكتاب يقولون عنه ،مثلما قال هو عن الخميسي، بأن القصة قبل يوسف ادريس كانت خاملة ورومانسية ومملة وغير فنية وتقريرية ،وأهيلت كل الصفات الركيكة على ماكان يكتب قبل ادريس ،وبالتالي ظلّ ادريس لافتا للانتباه جدا ،للدرجة التي محت آخرين تماما ،وأبعدوا عن المشهد بقسوة وضراوة ،وأصبح النقاد لا شاغل لهم سوي يوسف ادريس كاتب القصة والمسرحي والروائي والكاتب الصحفي.
وأصبح الجو والمناخ ملائما لتدشين أسطورة ،ومحو كل الظواهر التي نبتت على جوانب هذه الأسطورة ،وتعطلت كافة الأقلام عن الظواهر القصصية الجانبية ،بينما ظلت تعمل ليلا ونهارا في خدمة أسطورة يوسف ادريس ،فكان الدولة تبعثه إلي الخارج لتمثيلها ،وعندما تطلب جهات أجنبية ترجمة أعمال قصصية لكتاب مصريين ،فلا يوجد سوى يوسف ادريس، وفي ذلك السياق يكتب محمد دكروب عن ادريس عندما ذهب إلي دمشق ،حيث انعقاد المؤتمر الأول للكتاب العرب في 11 سبتمبر 1954،وكان يوسف ادريس ذاهبا لكي يقرأ قصة له في إحدى أمسيات المؤتمر ،وعندما سأله دكروب ،ماالقصة التي سيقرأها ،ردّ عليه ادريس بأنه لا يعرف ،وكانت دهشة دكروب كبيرة ،إذ كيف أنه لا يعرف ،فقال له دكروب :”كيف؟” ،ردّ ادريس بأنه لم يكتبها بعد ،واعتقد دكروب أن يوسف ادريس لا شك يعاني من جنون ما ،ولكن ادريس عاجله بالإجابة ،بأنه سوف يؤلف ويكتب القصة حالا ،وجن جنون الرجل فعلا ،فكيف يؤلف ادريس القصة تحت كل هذه الظروف ،وقبل انعقاد الأمسية بساعتين ،وبالفعل حدث أن كتب ادريس القصة في ذلك الجو المتوتر ،وكانت القصة هي “الطابور”،وهنا يصف دكروب ،يوسف ادريس وصفا أسطوريا مهيبا.
بالتأكيد أن يوسف ادريس قد أثرّت تلك النظرة النقدية عليه ،ووضعت إحساسه بذاته في مراتب عليا ،تصل إلي مستوي الغرور والغطرسة أحيانا كثيرة،وجعلته بالفعل يتعالي على كل من حوله ،ولكن هذا الأمر حاولت السلطة أن تكسره بشكل ما ،فتم القبض عليه مع مجموعة من اليساريين في أوائل عام 1955،وتفرج عنه في تمثيلية غير مقنعة في آخر العام ، ويعمل محمد أنور السادات علي استيعابه واستقطابه واستكتابه في أكثر الصحف انتشارا ،وهي صحيفة الجمهورية ، والأدهى من ذلك فكان يوسف ادريس يكتب للسادات مقالاته ،وبعض كتبه مثل كتاب “الاتحاد القومي” ،وكتاب آخر عن قناة السويس باللغة الانجليزية ،كما يكتب ناجي نجيب في كتابه “يوسف ادريس ..الحلم والحياة”.
وقرر يوسف ادريس أن يعيش تحت مظلة السلطة ،لا يعارضها إلا بحسابات مدروسة بدقة ،بل بالعكس كان يجاملها ، ويوجه الإدانة إلي الذين كانوا رفاقا له في يوم من الأيام ،وذلك عندما أدانهم في روايته “البيضاء”،هكذا يكتب فاروق عبد القادر في دراسته التي وضع لها عنوانا يقول :”البيضاء ..أوراق يوسف ادريس القديمة وأكاذيبه المتجددة”،وإن كنت لست مقتنعا بتأويلات عبد القادر المفرطة ،والتي تبحث في ضميرالكاتب ،بعيدا عن النص الفني،مستقلاعن الملابسات التاريخية والشخصية التي يعمل عبد القادر ألف حساب لها في النقد الأدبي ،مستبعدا أن يكون ذلك هو الرأي الحقيقي ليوسف ادريس، هذا الرأي الذي أدان اليسار ،واعتبره عبد القادر بأنه ممالأة للسلطة ،وحالة من حالات بيع الذات والتاريخ لاستجلاب الأمان والمصلحة والاستقرار ،هذه العناصر التي يرى عبد القادر أن يوسف ادريس كان حريصا عليها ،حتي لوكانت ضد المبدأ.
خرج يوسف ادريس من المعتقل ،وانهالت عليه كافة أنواع التدليل ،من السلطة ومن رفاقه القدامي على حد سواء، ففور خروجه من المعتقل ،صدرت له مجموعة “جمهورية فرحات” القصصية في سلسلة “الكتاب الذهبي”،وذلك في يناير 1956،ويكتب لها الدكتور طه حسين بشموخه وقامته المديدة والرافضة للأدب الجديد آنذاك ،واعتباره أن مصر تمر بمحنة أدبية علي يد هذا الجيل ،وذلك في مقال شهير عنوانه “محنة الأدب في مصر”،هذا المقال الذي جرّ عليه سلسلة من المعارك ،ودفع تلاميذه لكي يتطاولوا عليه.
إذن ماالذي جعل طه حسين يقبل أن يكتب مقدمة لكتابة لا يرضي عنها ،أعتقد أنها السلطة السياسية ،التي أجبرت طه حسين يكتب تلك المقدمة ،وفوضته أن يقول كل ملاحظاته في “أدب”،وهذا ماحدث بالضبط ،كتب طه حسين المقدمة ، ولكنه ساق بعض ملاحظاته السلبية على أسلوب ادريس ،ووجه له لوما شديدا ،لأنه جعل العامية لغة أدب ،بينما هي لن تكون علي وجه الاطلاق لغة أدبية ،وصدرت المجموعة بهذه المقدمة الأزمة ،والتي لم ينس يوسف ادريس وقعها عليه، فكتب فيما بعد موضحا أن طه حسين هو الذي طلب منه كتابتها ،وتعالى يوسف ادريس ،حتى على طه حسين.
بعد ذك مباشرة ،وفي عام 1957،صدر ليوسف ادريس مسرحيتان في كتاب واحد ،وهما “جمهورية فرحات وملك القطن”، وكتب تقييما نقديا موسعا حول المسرحيتين الناقد الدكتور علي الراعي ،والكاتب أحمد حمروش ،والكاتبان من أعمدة ذلك الزمان العظمي في الثقافة المصرية،وكتبا بالطبع مادحين ومقرظين ،رغم الفشل الذي عانته المسرحيتان بعد عرضهما ،رغم توفر كافة الظروف، من حيث توفير المخرج والممثلين والميزانية المطلوبة والبروباجندة الإعلامية التي تصنعها الدولة بكل جبروتها وقوتها.
لا أريد الإسهاب في العناصر التي راحت تعمل علي صناعة الأسطورة “يوسف ادريس”،ولا أريد أن يفهم من حديثي أن يوسف ادريس أقل من أن يكون أعظم كاتب قصة قصيرة جاء في مصر ،ولكن هذه العظمة ،عملت علي إزاحة كتاب كثيرين من المشهد ،ظلوا يكتبون في تجاهل ونسيان دائمين ،دون أي التفات من الساحة النقدية ،إلا قليلا ،وكان ادريس نفسه يساعد علي ذلك ،بعدما اعتبر نفسه أحد مطوري فن القصة القصيرة بعد تشيخوف مباشرة ،فهو لا يذكر الكتّاب السابقين في مصر إلا قليلا ،وعندما يتذكرهم ،يتحدث عنهم مقرونين بالفشل ،أو الرومانسية الركيكة ،أما من جاءوا بعده ، فهو لم يتأخر في تقديم بعض الكتّاب الشباب ،ولكنه كان يقدمهم بتحفظ واسترابة وربما غيرة كذلك.
ومن ضمن أخطاء عبد القادر النقدية ،أنه قال بأن يوسف ادريس قدّم يحيي الطاهر عبدالله تقديما إيجابيا كبيرا ،وأعتقد أن عبد القادر لم يقرأ هذا التقديم الذي كتبه يوسف ادريس لقصة “محبوب الشمس”في مجلة الكاتب أغسطس 1965،ومن يتأمل هذا التقديم سيدرك علي الفور سلبيته ،إذ كتب ادريس “كنت أفضل ألا أنشر ليحيي الطاهر عبدالله هذه القصة ،بل كنت أفضل فوق هذا ألا ينشر يحيي مايكتبه الآن ،فهذا الشاب الصعيدي النحيف الأسمر الساخط علي القاهرة والمدينة وكل شئ ،يقوم ،كما سترون كاللمحات الخاطفة في هذه القصة ،بمغامرة فنية قد يجازي في نهايتها بلون فريد من ألوان القصة يتميز به وقد لا يخرج بشئ بالمرة ،ولكني من أنصار المغامرة ،فالحياة نفسها مغامرة كبرى لا تخرج منها الكثرة بشئ ولكن معظمنا أيضا يكسب لذة الحياة المغامرة نفسها ،كنت أفضل ألا أنشر له الآن حتى تنضج مغامرته وتنضج ، ولكن يحيي مثله مثل الجيل الجديد جدا من الكتاب سريع التبرم بالأشياء ،وأولها قلة النشر سريع في اتهاماته وأولها أن الناس لا تريد أن تفهمه ولا تقوى على طريقته في الكتابة ،مثله في هذه النقطة مثل حافظ رجب الذي تعجبني شخصيا كتاباته وإن كانت لا تعجب كثيرين والذي سننشر له قريبا قصصه باعتبارها نوعا غريبا جديرا بالوقوف والمناقشة والتأمل”.
هذا ماكتبه ادريس في تقديم الطاهر عبدالله ،ولم يفلت حافظ رجب من يديه ،ولكنه أراد أن يجرح كتابته باعتبار من الألوان الغريبة في الكتابة ،وتستحق أن تدرس من تلك الزاوية ،وسنواصل لاحقا متابعة ماكتبه يوسف ادريس فيما بعد عن آخرين ،وتوقف بعض الكتّاب من جراء الإهمال الذي عانوه في تلك الحقبة الإدريسية من الزمان.
أخبار الأدب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *