*حامد عبدالحسين حميدي
خاص- ( ثقافات )
وأعيدُ ترتيبَ الجدار
وأشكّلُ المعنى .. ” ذنوب “
لا أعلم ما الذي استهواني لقراءة ( هوامش كحل ) هواية أم غواية ؟ أم الفضول في تتبع مَن يملك اعادة ( ترتيب الجدار ) و اشكال المعنى .. من يتحكم بانزياحات النفس في مكامنها ليقودنا ضمن ايدلوجيته الشعرية للولوج في ( صومعته ) لنقف في فضاءات تتسع كلما ضاقت المفردات والتراكيب ، الصومعة التي افرزت انبعاثات لغوية ومشاطرات شاعر يمتلك كل الادوات التي يستطيع من خلالها التحرك ضمن خطوط متعرجة ، اذا / هو شاعر لا يعرف الهدوء ، شاعر يتحرك في مضامين شعرية ضاجّة ، انه الشاعر الدكتور ( حامد الراوي ) الذي لا ولن تستطيع سبر اغواره إلا بالاقتراب من كتاباته الشعرية ، لتجد انساناً تتكامل لديه كل المفهومات والرؤى الشعرية ليس تحايلاً بل الملكة والموهبة التي انسابت من بين انامله لتغص بهذا الكم الهائل من المفارقات الذهنية والتناقضات التي ترسم خطوطا ً متناهية الصياغة الفنية وكأنني في ورشة رسم صغيرة في مساحتها .. كبيرة في نتاجاتها ، تضخّ كل ما يجذبنا ، الى عالم مملوء بالصخب والجنون :
وامتد المكان
واستثيرت قطرتان
رحل النهر الى ارض جديدة ” قطرة مطر “
انها خارطته التي لم تحدها إلا نقوشات فسيفسائية ورسوم حسية وصورة ممزوجة بالتحريك الذاتي ، والتأمل والهرولة والتقصي وراء كل ما يبعث الاستثارة وأية استثارة ، انها التي تزدحم فيه بمكانية تتسع من بؤرة مصغرة لعالم لا يرى فيه إلا مراوغات حياتية مخالفة لقوانين الطبيعة ، لذا عمد ( الراوي ) الى : ( امتد / استثيرت / رحل ) هوس التدرجات الفعلية ، هي نوع من التوصيف التخيلي الذي يشكل في اذهاننا انطباعات خاصة .
وعلى مشارف صمتهم
مدن
وكأنهم اذ يقبلون
غاب من الاحلام
بل وطن
يتسللون
ويرحلون …. ” هم ”
انها رؤية باطنية لمخاطبة غائب تحددت معالمه في مخالطات ومتناقضات ( مشارف صمتهم / غاب من الاحلام / يتسللون / يرحلون ) ليكون الشاعر الراوي صورة لغائب ما ، فاقداً لما لا يملكه ، كي ينقل لنا صورة نوعية نادرة وحضور فاعل في تورطيات جلّ من يمتلك مفاتح دهاليزها ليغور في تحريكات منتظمة لإنسان غلواؤه ( وطن ) .
عبثاً
اعوذُ من البداوة بالحداء
وأوشوش الاشجار
كي يمتد عشبٌ في الكلام …. ” ذنوب ”
من بين ما يمتلكه الشاعر( حامد الراوي ) هو قدرتة التامة على تطويع المفردة والتركيب وفسح المجال امام الامل والتفاؤل في التحرك ضمن شاعريته الرصينة ، لأنه شاعر يحرك الساكن ويتحرك ضمن مجالات توافقية ما بين الخاص والعامّ ، ويدوّر العبث في تثوير ( البداوة بالحداء ) انه يميل الى استخدام صيغة ( افعلل ) / ( اوشوش ) تلك الصيغة التي تبعث ارتياحاً نفسياً لدى المتلقي / القارئ او السامع ، انها اشبه بدغدغة موسيقية تناغم الروح المتفائلة (كي يمتد عشبٌ في الكلام ) .
بين الصوت وعينيك
فمن يقسم اني
ما زلت اشدّ على روح واحدة اجزائي
الخمر يمين الروح
وصلاة الماء
اقيمت فوق عراء ملتصق بسمائي
اذبح بين الزرقة والرمل
ويسلخ ظلي
ويغادرني كلي
فأتمم
يا هذا الملكوت الكامل
ادخلني ثانية مدخل صدق . ” مائدة الجنون “
لا اعلم ما اقول إلا أنني اجد نفسي امام ( شاعر رهبان )، استطاع بما يمتلكه من مخزون ثقافي ومعرفي رصين ، ان يحشد ابتهالاته الصوفية بنسق تسمو فيه الروح وتعلو عن كل الصغائر ، انه يسبر كل عوالمه التي تترفع عن الحسية ويلوّنها بهالة من الخشوع والرهبانية ، ليغط ّ في مكاشفات لا تطرح نظرة جمالية فحسب بل مخاطبات موجّهة بقوة فاعلة بإطلاق صوته نحو ( الملكوت الكامل ) الذي تتصاغر امامه كل الاشياء ليبقى مثالياً على الرغم مما قد يشوبنا من منغصات حياتية ، انه ( الراوي ) اشبه بدرويش يحمل مسبحته وهو يلتقط انفاسه من فضاءات السكون والطمأنينة خالصة بعلاقة بنيوية بين العالمين الحسي والمعنوي ، يكون فيها الأول تابعاً للثاني على غير ما هي الحال عادة.
اضعنا الطريق الى موتنا
واختبأنا لكي لا ترانا الحياة
نخاف على مجد اسمائنا
ان نخونك في موتنا مرتين
أ كنت ترمم فينا نهاياتنا
لنزعم انا ابتلينا بإنصاف اعمارنا
كل نصف مكيدة
أ كنت ستلقي السلام على دمعنا
حين تبكي القصيدة … ” اضعنا الطريق الى موتنا ”
التجرد الذاتي من الانا والانغماس في ( نا ) المتكلمين ، سمة طغت عند الشاعر ( الراوي ) الذي يسجل حضوراً دلالياً في تنشيط الصيغ الجمعية ، من خلال هذا الضمير الضاجّ بالانفتاح النفسي المتفرد : (اضعنا / موتنا / اختبأنا / لا ترانا / نخاف / اسمائنا / نخونك / فينا نهاياتنا / لنزعم انا ابتلينا / اعمارنا / دمعنا ) كيف لا يكون ذلك ، وهو يقف امام عنوان لهويته الوطنية ، تلك الهوية التي خضبت عراقيته بحناء المجد المطلق ، هو يجد ذاته فيها : حياته / موته / اسمه / العمر الذي يمضي دون انقطاع ، انها احتراقات في بودقة الحياة اليومية .
ليل الجنون تأخر
ليس في شرفة الجناس نعاس
كي تنامي
وتتركي العطر يسهر
ليس في خصرك النحيل بلاد
من غبار
لتنفضي العري اكثر … ” يهدأ الوقت ”
ايّ ليل ؟ وأيّ جنون يغصّ بالتأخّر ؟ إنه الوقت الذي لم تزل رعشاته تتآكل في اجسادنا .. لينثر عبق ما يتطاير منه ، وهو يمضي دون اكتراث ، تاركاً بصماته فينا ( نائمة / ساهرة ) ، تشرئب بمدلولاتها الذهنية المتنامية بخطابات مرسلة / ضاجّة بمرسلات غائية ، حدودها مرسومة في عقلية الشاعر ( الراوي ) وهو بارعٌ في اطلاق العنان للصحوة التي تنفض الغبار عنها .. ( الراوي ) شاعراً لم يترك لنا اثراً كي نقتفي ظله ، لأنه بارع – ايضاً – في تحديث ما ينظمه بروعةٍ وبراعةٍ ، تنمّ عن فطنة وذكاء ، وموهبة قلّ ان نجد مثيلاً لها فـ ( هوامش كحل ) هوس وجنون لشاعر عشق هاتين المفردتين ، ليطبعهما في متن ديوانه .
________
*ناقد عراقي