غواية الطين


حسن دعبل *

ثقافات :

عجنتُ الطين وخلقته قبل رميه للنار،
لاخيار لديّ ولاشفقة ؛
لا رميةَ نردٍ أراقصُ بها طاولة الزهر ولا استقامة ؛
وحدها النار تتوهج بلهبها لتحررَ الطين من صلصاله
الطين صلصال الأبدية وهيولها وطوطمها قبل أن يُعبد،
والطين والنار سرُّ وقدس وروح ؛
والطين عُجن وشُوي ولزب قبل أن يخرجَ بين الصلبِ والترائب،
وقبل أن تُحرّر النار غوايتها للماء ؛

الماء عدو النار
النار وصيفة الهواء ؛

منه خلق إنكي آلهاته الواهنة، ومنه عجنتْ الرُقم واللقي والألواح،
ومنه نُقشت رسمُ الآلهات ؛
بالطين ُطشَ ولطخ دم تيامات وقطعت أوصالها، وذر رمادها في اليم
والطين طهر الأرض وسيجها وباركها،
بالطين بنيت دور العبادة والأديرة والمعابد والمذابح المقدسة،
فما سرّ الدم والطين والتراب ؟
وماسرّ القماط والكفن؟
وما سرُّ الآلهات وجبروتها والعبيد؟
أقصد عبيد المعابد المقدسة ووصيفات الآلهات وأنصافها
العبيد وهم يساقون إلى حتفهم، أو إلى مذابح البيوت المقدسة
الوصيفات أيضا وهن يتبخترن في مشيتهن وشبقهن بين أنصاف الآلهات وأنصاف البشر، أو بين رعاع البشر، ويتباركن بأجسادهن على المذبح المقدس ؛
الطين غواية البشرية الأولى، وسر الكون، وسر المعابد
وسر بيوت العبادة، وسر الكتب والرسل والحياة.

مائدة مريم

الليل لايلتفت وتغمض له عين لقداسٍ يخضّرُ بقماشه أو فرحه المنتظر ؛
لا الشموع المطفأة، ولا قناديل الليل المغيّبة بلهاث الفجر، غير مائدةٍ نترقبها وتترقبنا
بعينٍ مطفأة من كثرة السهاد، هي عين أمي ؛
لم تتطهر بها الأرض التي ننام عليها، ولا تذر بركاتها وكراماتها على سجادة صلواتها المفروشة والمقدسة، لكنها تجمّلها بالدعاء والصلوات.
لم تعرفها أمي غير مريم العذراء الطاهرة، ابنها عيسى بن مريم، طاهر ونبي وابن بتول طاهرة، وغير هذا،
لا تلتفت لشي ؛
تُحضّر لها المائدة:
خبز أسمر معجون بخميرة تمر، وسمك مجفف، وكرّاثٌ أو ما تنبته الأرض من قثائها ؛ تضعه في ‘زنبيل’، وتغطيه بخرقةٍ خضراء ناصعة وطاهرة، رائحتها زكية فواحةٌ بلون الأضرحة؛
أترقبُ هذا العيد، وهي تسميه ‘وفاة’، كما عادتها في الحزن
وأظلُ ألمح في عينيها الفرح الدامع، كنهرٍ حزين ؛

أمي التي لا تعرف غير الصلاة والبكاء، وعلي وفاطمة، وسواد الحسين ؛
لماذا تميل إلى العيد والفرح وتستبدل سواد أيامها بخضرةٍ وكساءٍ أخضر مائلٍ للحياة؛

كل هذا وأنا أسبحُ في ملكوتِ الليل وأبديته
حين يقاسمني الأرق نصف ردائه ؛
وأقلب كتباً تتنازعني اصفرارها بين أصابعي، وضوء معتم من عيني لأحرف ربما تناسلت لصغر حروفها، حين أعثر على عيسى، أو عيسى بن مريم ؛
تلك صحوة متأخرة، أجلتها مراراً، أو عجنتها لخبز مريم العذراء، بنبيذٍ عتَقته أو خمّرته أفكاري، وهي تتجاور بحنينٍ سادرٍ في ملكوت السؤال، عن أديانٍ وأديرة ورهبان ؛
تجلت لي صلواتها مباركة وطاهرة،
لحيوات باركتْ أهلها بالمكان.

* قاص من السعودية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *