ارتسامات حــول نفــس شعــري متوقــد من خلال أشعار أسماء بنت صقر القاسمي


* أ. د نجـاة المريني


أتيحت لي فرصة التعرف إلى الشاعرة الإماراتية سمو الشيخة أسماء بنت صقر القاسمي بإمارة دبي عن قرب ، وكنت قد تعرفت إليها عن بعد عن طريق الشبكة العنكبوتية ، وعن طريق أنشطتها من خلال موقعها الرسمي في هذه الشبكة ،مما أغراني بالكتابة إليها والاستمتاع بأشعارها الرقيقة الدافئة ،وتتبع مجالات أنشطتها في المغرب وغيره من الأقطار ، فتأكد لي نبل سعيها لخلق حوار شعري بين الأقطار العربية وإلى التعرف إلى الرواد من الشعراء نساء ورجالا ، خاصة وأن التواصل بين البلدان العربية ومبدعيها ضعيف ،إلا عن طريق العلاقات الشخصية ، فأسست شبكة صدانا الثقافية فهي مالكتها ورئيسة مجلس إدارتها وكان اول ملتقى لها على ارض الواقع في مدينة فاس ، ، وسعت من وراء ذلك إلى تكسير الفجوة بين المبدع في المغرب وغيره في الخليج أو المشرق بصفة عامة .
أسماء القاسمي خريجة كلية قانونية واقتصادية ، فهي حاصلة على الإجازة في علوم السياسة والاقتصاد ، فكيف أغـواها الشعر واستـفـزتها الكلمة الشاعرة ؟، حيّرني الأمر وتساءلت وأنا أمام زاد شعري متنوع ، ما سـرّ إبداع الشاعرة أسماء ؟ ما سـرّ الغواية يا ترى ؟ كيف استهواها ركوب قاطرة ضـد التيار ؟ إنها الموهبة دون شك، والملكة الشعرية قد حطت بركبها فصقلـتها واعتـنت بها ، وراكمت إرثا علميا ورثته عن الأسرة وعن الوالد الأمير الشاعر ، فأوقدت جمرة الشعر في داخلها حبها للأدب وعشقها لمروجه وأجوائه ، وتمكنها من اللغة العربية ،عاطفة ملتهبة وإحساس مرهف ، أدواتها للولـوج إلى عالم الشعر في نصاعته وجمال روائه . 
ولا غرابة في الأمر، أن تختار سمو الشيخة أسماء بنت صقر القاسمي المجال الإبداعي بتفوق ونجاح ، فهي سليلة أسرة عريقة مجدا وإمارة ، ثقافة وشعرا، فوالدها هو صاحب السمو الشيخ الشاعر صقر بن سلطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة سابقا ، تربت في بيت عـز ومجد ، وأدب وشعر ، وسبحت وشقيقاتها في عوالم الكتابة والإبداع ، وأرست سفينتها عند مرافئ القول الشعري ، فنسجت بأناملها أحلى القصائد وأبدعها تعبيرا عن كينونة وتحقيقا لوجود. 
أسماء القاسمي شاعرة رقيقة الإحساس ،رومانسية الوجدان ، طيبة المعشر ، حاضرة البديهة ، تبعث في مجلسها دفئا وحرارة ،تستشهد بمحفوظها الشعري ما يمتع ويطرب ، صاحبة شخصية قوية ، تبهرك بتواضعها ورقة طبعها وسمو خلقها ،فهي الأميرة المتوجة سيدة المجلس ، تنصت إليك باهتمام وتبادلك الرأي باحترام ، تشحذ ذاكرتها فتنثر عبيرا من حلو الكلام ، و شدوا من بديع الأنغام ، تسحرك بما تملكه من قدرة على الإنشاد ، فحافظتها لاقطة ، وذاكرتها متقدة ، ذات حس حضاري راق ٍ ، هكذا عرفتها بعد أن جالستها لحظات ولحظات كانت خلالها المرأة العربية الشامخة علما وخلقا ، فكل الكلمات لا تفي التعبير لها عن سعادتي بمعرفتها وحسن ترحيبها وجميل استضافتها .
وعندما أهدتني سموها باقة من دواوينها الشعرية في طبعاتها الأنيقة ، وعندما أنصت إليها مباشرة وهي تردد على مسامعي نـتـفا من قصائدها ، انبهرت بهذا الدفـق من الأشعار ، وبهذا الانسياب الهادئ في الإنشاد ، ورددت مع نفسي ، لم لا تتاح الفرص مشرقا ومغربا للتعرف إلى شاعرات بهيات بهذا السمو في الكتابة وهذا البهاء في التعبير ، وإن كان يطبع أغلبه مسحة من الحزن والضبابية ، ولم لا أدلي بدلوي في الحديث عن بعض أشعار هذه المبدعة الأميرة ، والإبحار في عالمها الشعري بطريقتي الخاصة شرحا وتحليلا وموقفا في بعض الأحيان ، وضعت هذه الدواوين المهداة فوق مكتبي أنظر إليها وأقرأ خباياها مع ما علق في ذاكرتي من قراءات وما بعـثـته لي من قصائد جميلة عن طريق الوات ساب ، وقررت أن أكتب ارتسامات عن بعض القصائد التي أغواني القلم بالوقوف عندها وحبّـب إلـيّ التمتع بأساليبها ودفقها الشاعري المنساب في لغة جميلة واضحة ،مؤملة أن يـفي القلم بما تكـنه المشاعر من تقدير لإبداع الشاعرة أسماء ، فيطاوعني للتعبير لها عـما أفـدتـه من قراءة هذه الدواوين وما رسمه في التعريف بها والتـنـويه بصاحبتها ، وسأكتفي ببعض هذه الدواوين ، منها : 
1 ـــ ” شذرات من دمـي ” : تشتعل ترانيم العشق جمرات متوقدة في كتابات سمو الشيخة أسماء بنت صقر القاسمي لتلهب المشاعر، وتوقظ في النفس الإحساس بتباريح الهوى في فضاءات لا متناهية . 
ما أجمل الإنصات إلى الذات وقد سكنتها تموّجات ماض والتهابات حاضر، فتحكي في صمت ما يـلـفُّ العباءة من شجن وغربة . تقول الشاعرة أسماء في قصيدة عنوانها ” في حقبة أحزاني ” ص 18 من ديوانها ” شذرات من دمي ” : 
آتية من مدن التيه 
أتأبط حقبة أحزاني 
تأخذني تساؤلاتي 
إلى أزمنة الماضي 
وأمكنة الحاضر 
أعيش عزلة الحواس 
قراءة ديوان ” شذرات من دمي ” يبعث في نفس القارئ المكتوي بخداع الواقع وانزلاقاته تعاطفا مع ذات نجحت في التعبير عن هواجسها وآلامها وآمالها، وعكست بروح صادقة ما تعانيه من غربة في ردهات حياة غير مؤتمنة ، فهل قدر المرء أن يعيش عراكا مع الزمن ويرتشف كؤوس أحزان تثير أشجانا وتحيي ذكريات موجعة، لعله القدر الذي ينتصب أمامنا وقد أشهر سيفه ليعصف بكل جميل ، وينسف كل طوق أمل نتمسك بذيله ، لكن ، وهيهات لكن ، ما أروع أن تحل أوجاع ناسكة في محراب الكتابة في أوصال قارئ قد يكون مكتويا بنيران تحرق أوصاله، وتلهب مشاعره للتغني بمسار أحلام يعطلها وميض واقع تتكسر عنده تلكم الأحلام . 
تقول الشاعرة أسماء في قصيدة ثانية عنوانها :” يراع على قارعة ألم ” ص 22 
لم تعد لي رغبة 
في البحث عن طوق نجـاة 
ينتشلني …
من غياهب الأسى المقدر 
موصدة أبواب الفرح في
وجهي 
الموشوم بانعكاسات 
مرايا الأمل الخادع 
2 ـــ ” في معبد الشجن ” : برورا بوالد أديب ، وبحاكم نبيل ، تستفز الشاعرة أسماء القاسمي قلمها السيال لتهدي إليه كما ذكرت في إهداء ديوانها ” بوحا دائما في ديوانها ، تقول :” إلى والدي :لك البوح الدائم عبر مسافات الزمن الماضي والآتي ” 
لقد عاشت الشاعرة أسماء ، الملتهبة العواطف ، متاعب البعد ، وآلام الفراق ،فلم يعد يسكنها غير التذكر والتأسّي في نفس الآن ، يتعب فعلا من يتجرع هموم فراق غير منتظر ، ولوعة الم غير متوقع . تقول في فاتحة الديوان : ” حين تقرأني حرفا حزينا ، فاعلم أن كل حرف في معبدي شجن ” . 
أسماء ،عاشقة حتى الثمالة ، في مناجاتها بوح سرمدي لما تشعر به من إحباطات في عالم نغص عليها طعم الحياة الهنية ، بفقد من كانت تجد في رفقته الهناء ، فاختصرت كل مشاعرها في حب دفين وقلب سؤول عن عشق سراب ، تقول في قصيدة عنوانها “رسائل : الفقرة رقم 3 : ” ص 9
في غمضة جفن 
أصبحت في الوريد 
أصبحت الحلم والصحو 
ونجمي البعيد 
في غمضة جفن 
أحببتك سيدي 
حتى ما عدت أطيق وطنا 
سواك 
أصبحت لي وطنا فهجرني القوم 
أصبحت لي حلما فجفاني النوم 
لاشك في أن تجربة الشاعرة أسماء القاسمي في الحياة كدّرت عليها لذاذات تستشعرها ، لكنها لاتعيشها ، لقد هيمنت روح التشاؤم في ديوانها ن فكانت قصائده وفية لما خـطه القلم ، ولم تجد سكنا أفضل من معبد يشترط فيه التبتل في محراب الحب والدفء ، لكن الواقـع أبحر بها في لجـة أشجان ولا أقول شجنا لتبث القارئ لواعج نفس أضناها ما تعيشه من حيرة وقلق ، تقول ص 19 :
من جـزّ الغصن المثـمـر من تلك الأيكة ؟ 
من غرس الآلام بجذرالخيـر؟ 
من نخـر عمق الأخلاق بهيئتـه ؟ 
من أيقظ الأحقاد المرمدة ؟
ذاك المعتوه المجبول على الأطماع الشرهة .
تتوزع الديوان محطات متعددة وقفت عندها الشاعرة ، يضنيها واقع الأمة المتردي ، أمة العرب وقد تخلت عن كبريائها ومروءتها ، فضاعت في متاهات الغدر والخراب ، لم يعد لها صوت تسمعه، ولا نخوة تستـثـيرها لفك الحصار، وفي تشاؤم وانكسار تذكر الشاعرة أسماء بما كان لأمة العرب من حضور وبهاء ، تقول في قصيدة عنوانها ” أمة الصمت ” ص 32 
تفقدي يا أمة الصمت 
بعضا من كبريائك 
وفي استفهام إنكاري لما تعيشه الأمة العربية من انزلاقات تقول : 
لا تثوري … إن فعلت 
… لا تهبي كالأعاصير 
فالقوانين هنا بيع وشراء 
كلها في هذا الزمن الموبوء 
سواء 
… لا تـفـيقي 
حـذار ..حذار 
فالعقل للحـر شـر وبـلاء 
إنها انتفاضة شاعرة أزعجها الواقع ” الموبوء ” فأرقها وبعث فيها تلكم النخوة العربية ، فلم تجد غير السخرية بابا تنفذ منه إلى التعبير عن حقيقة مشاعرها ،تقول :
لا تثوري أمتي 
إن ثرت كالإعصار 
يغرق البحر في البحر 
وينزوي في خباياه البركان 
لا تثوري كالريح 
سوف يهـتـز وقارك 
إن رفضت القهر 
وكنت إعصارا 
يثور من اعالي السماء 
وتضيف في امتعاض وسخرية ، وتقول : ص35 
لا تثوري 
واقتلي المروءة 
والكرامة 
واذبحي الإباء 
واغتالي الضياء 
اذبحي كل رجولة 
وانتفاضة 
واغتسلي بالعار ….
لقد أماتت فينا الانهزامات والانكسارات كل أمل في التمرد والثورة ، وأصبح الخنوع مركبا لأمة المليار، ما أوجـع أن يتجرع المرء غصة الانكسار، ولم يعد يرى غير الاستسلام جوابا عن سؤال لم يطرح ، تقول : 
لا تنهضي يا أمة المليار 
كالإعصار 
لا تنهضي كـبـركـان 
بوجه بني صهيون وقـيصر 
فتلك جريمة في قوانين الغزاة 
وكما جاء في قصيدتها :” المرآة ” ص 39 : 
إذا اكتشفتم يوما 
أن وجوهكم في المرآة لا تشبهكم 
فلا تكسروا المرآة 
فالخلل في أعماقكم ، وليس فيها 
قصائد الديوان تمتح من مشاعر صادقة ، فلولا الصدق والإحساس بالمرارة المتعددة الوجه والصفات ،الملتبسة في حروف تشابكت مقاطعها وتراصت عباراتها ،لما كان لهذه القصائد الصـدى الموجع الذي تركه بتأكيد في نفس كل قارئ مرهف الحـس ،متوقد العاطفة ، فكان لسان الشاعرة أسماء أفصح معبر عن خلجات قلوب مزقـتها ملابسات الزمن الرديء ،وتكالبت عليها مآسي الواقع المرير ،سواء تعلق الأمر بالواقع النفسي أو بالواقع الاجتماعي أو السياسي . 
لقد شدّنـي هذا الديوان إليه بكثير من الإعجاب ، ولقي في نفسي منعرجا سلكته بكل أناة وحذر ، فوقفت عند قصائده البوحية متأملة ترانيم الشاعرة أسماء بلغتها الجميلة وأساليبها المشرقة ، وأخيلتها الفياضة والمستوحاة من قراءاتها ومن مخزونها الشعري ، فكتبت وأجادت ، وأحسنت وأفادت .
3 ــ هواجس النـدى : جاء في الإهداء : “إلى عشاق الكلمة في ربوع العالم العربي “
بنفس اللغة الشاعرة والترنيمة القاسية تتابع أسماء القاسمي كتاباتها الصاخبة وهي تعيش تمردا على الواقع المأزوم ، معبرة عن قلق وجودي يصاحبها أينما كانت ، فالقصيدة عـون لها على التجاوز والاعتداد بالذات، فتنقل مشاعرها وأحاسيسها إلى الآخر كي يشاركها ما تكتوي به من حرائق فجرت شاعريتها وألهمتها القدرة على الإفصاح عن مكنون ذاتها ، تقول في حوار معها عن القصيدة :” القصيدة مجموعة أحاسيس ومشاعر مخزونة في ذواتنا نسكبها على الورق فتصبح ملكا للقارئ الذي يحق له أن ينتقدها كيفما شاء ، فله سلطة الانتقاد ، ولنا سلطة الإبداع ، وكلانا مكمل للآخر ” .(عن الشبكة العنكبوتية )
ولعل في ديوانها ” هواجس الندى ” ما يؤكد هذا القلق الذي تعيشه الشاعرة ، تقول في مقطع قصيدة عنوانها ” صوت متمرد ” ، ص 10 
أخرج من دياجير ذاتي 
لأهيم على وجهي كآلهة إغريقية 
في يدي غيمة 
أسكب أباريق مطرها على بيداء السطور 
فتتخاطف الريح سفر قصائدي المتمردة على 
وصايا القبيلة 
لماذا ترسو سفينة الشاعرة عند شواطئ الغـربة والتمرد ، ما الذي أرهـقها كي لا تكون الطائر المغـرد في فضاء مشرق ، ما الذي أتعبها وهي المرأة البشوش المشرقة الأسارير ، تطل عليك بفرح طـفـولي وهي تحكي عن عشقها لوطنها ولمسقط رأسها ، إنه الألم الدفين في الثنايا ، ينسكب كما ذكرت على الورق ليعلن في الأرجاء تمردا على قوانين القبيلة .
لا تنفك الشاعرة بما أوتيت من قدرة على سبك قصائدها بأساليب نديـة وعبارات بهية ترصد حالات قلق تعيشها ولا تـفـتـر تردد صداها في كل كلمة وكل عبارة ،تقول في قصيدة عنوانها :” عصيان ” ص 58 
الليل رفيق الأشجان 
يستـلـذ 
بمسامرة ذاكرة غارقة في 
التيه 
…تزاحمت الأحلام في فضاءات 
نـومـي 
تمـلأ فراغـات ليـلي 
المضطرب 
لم تجد لها مـتـسـع 
للتهـجـد 
في أرض الـواقـع 
كتـمت لـواعـجهـا 
فأعـلـنت العصيـان 
يتساءل القارئ عن سـر هذا الجرح الذي ينكـأه الزمان ،ولا يستطيع له دواء ، تردد وتردد بيقين العارف رغبة في الفرار أو الهروب كما تسمـيه وقد اتشحت بوشاح الغـربة ،، تقول في قصيدة ” هرولة الهروب ” ص 85 :
أناجـي وحــدتـي 
أمارس هرولة الهـروب للأمس 
كـكرات من الثـلج 
كـلما انزلقت في دروب تكابر حجـم امتـلائها 
بالأمنيـات 
تبدو الشاعرة المرهفة الحس في هذا الديوان دائمة الأرق ، مسـهدة قلـقة ، لا يطمئنها صبح ولا أمل لتـنعش الذاكرة وتبحر في عالم الأحلام والأمنيات ، تغفو لعـلها تـبدد الصمت المطبق حواليها وقد أرهـقـتها كما تذكر ” نبرة ألـم يرتدي أنين أبجدية ” ص125 ، ترى ما السـر في هذا الألـم الدفين في الأعماق ، كلما حاولت التخـلص منه إلا وجـثم بكلكله على مشاعرها وأحاسيسها ، تقول : ص84 
صـرير الذكريات صوت صارخ يعبـث بروحي 
يطرزني وشاح اغترابي لوعة مسافرة على 
أجـنحة المــدى 
للكلمات سحرها ، قوة وضعفا ،فالشاعرة تختارمن المفردات والكلمات ما تراه مؤديا للمعنى الذي تعيشه بأناقة وجمال وحسن ترتيب ، فلا يشرد القارئ وهو يتـلمس تباريح نفس تحرقها المواجع ،وتؤرقـها الأحداث ، إنها تـجوب في سوح ذاتها بسموق وشموخ ، لتعلن ما يكدر مزاجها وما ” يعصر سلافات حزنها ليترعها في دنان القلب ، ..في كهوف غربة تـضج كينونة ألـم لا يـهدأ ” كما تقول ص 86 ، ما أروع أن يوفق المرء في الإعلان عن كينونة مستلبة بلـغة هادئة براقة ، تـجـلو صدأ السنين ، وتقاوم عبث الأيـام قدر المستطاع ، من أيـن لهذه الشاعرة المتمردة بهذه السيولة في التعبير عن واقع ترفضه ، لكنها حبيسته ، لا تستطيع الفرار منه ، تقول : ص 124 
أرق 
يريق ماء الصبرعلى 
خيـبات الوقت 
يربك ضجـر أقـداح 
الحـنـين 
المتناثرة في شجو قيـثارة 
الليل 
تباريج الشـوق 
إيقاع مضطرب في 
تأوهـات ذاكـرة .. إلخ 
تـتـنفس الشيخة أسماء نسـائم فضاء شعري لا يخلو من رهافـة إحساس وحرقة مشاعـر ، فهي تـتـنـقـل فـي تعاريج الكـون وتباريح الهـوى ، مؤكدة وهي في ربيع العمر ارتواءها من نسائم محـبة تـشعل فتيل الإبداع في كتاباتها ، بعثت لي مؤخرا قصيدة عنوانها :” صحاري العدم ” تشكو في هذا النص طول الوقت ومجاله السديمي وهي العصفورة كحلم مرتجف ساعة الميلاد ، ولا بأس أن أورد النص كاملا وقد وصلني عن طريق الوات ساب ،بتاريخ 29 مايو 2015 ، تقول :
ليل طــال مكوثـه في غيبوبة الوقت 
أغلـق نوافذ النسيان 
كعصفورة البرق الغارق في صهيله 
كحلم مرتجف يتقمص الصرخة الأولى للميلاد 
يزين الغيمات الهاربة من قصور السماء 
يلون قوس المطر في مدى ملكوت لا متناهي 
يمارس العبور عبر المجال السديمي 
ليجادل أقانيم الضوء المصلوبة على أسواره 
أجوس ما استطعت من أزقة 
تجتـر زمانها المبعثر في سديم الـسكون 
أعبر الأفق المدلهـم عبر القرون 
أقاوم عقارب الوقت كي لا تراني ظلال الأيك 
أرصد العابرين على هجير العمر المحترق 
و أزرع جسدي في غيهب المنتهى 
خارج سيرورة الماء والطين 
كلما حاولت ترتيب حيرة الوجود في 
مستطيلات الفراغ 
أعادتني أقداري إلى دفاتر الذكريات 
يسورني جدار من صمت 
فأكسر قانون التوازي 
أبحث عن ذاتي في نهايات الزمان
أقرأ تفاصيل خيبات العـمـر بين 
الواقع والمستحيل
أبحث عن ارتواء في صحاري العدم 
كي لا أمارس الموت في المنتصف 
أتمدد في الفضاء المطلق 
كصوت ناي قادم من البعيد …البعيد 
يدهش مهجـتي 
لاشك في أن قلمها يسعفها ـ وإن جاء في نص آخر أنه لا يسعف ــ على اختراق الذات بعفوية لتكشف عن ذاتها التي ضاعت في متاهات الزمان وخيبات العمر ، أتساءل باستمرار وقد قرأت مجموعة من دواوينها عن سر هذا التشاؤم وعن سر هذه الحيرة وهذا الرفض للواقع الذي تناثرت حباته في أفـق مدلهم عبر العصور ؟ ألم يكن حريا بالشاعرة الأميرة أن تبـشر الأجيال القادمة بوجوب التنديد بالصمت بدل الركون إلى الصمت لممارسة الحياة في فضاء حر تُـتنسم فيه روح الحرية والصمود 
وفي نص آخر توصلت به اليوم 1 يونيو 2015 ، عن طريق الوات ساب ،عنوانه ط كلما الليل دجا ” ،تقول : 
سلام على النائمين في ساعات صحوهم 
سلام على نهر جفت أوتاره على صخور الحياة 
سلام على شمس لم تعد تشرق على هذه 
الكائنات 
المسجاة في عزلة الكون 
هذه الأرصفة أنكرت خطواتي 
وتلك الأشجار لم تعد توفر الظل لي 
وأنا الهائمة في ملكوت غربتي 
في هذه المدن التي لا تنام 
أهجر صمتي ، كلما الليل دجـا 
وأغني أهازيج يومي مع العصافير الساهرة 
أحاول أن أتلبس قصائدي 
يهرب الحبر من أصابعي 
كلما حاولت نثره على صفحات روحي 
يتلعثم ظـل المارة حين تـلج أقدامي 
رصيف الوقت 
ترافقني الأشجار وتسابق مصابيح الشوارع 
خطواتي المضيئة 
أنا المكنونة في محارة الغيب 
أبدو في قناني العطر 
يا باريس 
رفقا برئتيك التي لن تحتمل أريجي 
الأرصفة تفرش ابتسامتها في طريقي 
تؤنق خـدها بإيقاع أقدامي الخاطفة 
همسات توشوش بها الشاعرة في سمعي وهي تحمل توجعا وغربة في فضاء باريس ، وعلى الرغم من ومضات أمل تبرق في طريقها وهي ” المكنونة في محارة الغيب ” فإن الأرصفة أنكرت خطواتها ،وهي الهائمة في ملكوت غربتها ، فلم كل هذه التسابيح؟ ولم كل هذا الهروب ؟ صور جميلة حاول تدبيجها يراع كاتبة يمج سوادا في بياض كلما فاجأها مخاض قصيدة بفكرتها وأسلوبها ، وهـي التي تتنفس في كل الفضاءات شعرا تحلو لها قراءته والالتذاذ بتعابيره وأخيلته ،مع ما للحافظة من حضور عندما تستفزها لإلقائه ، تذكر الشاعرة أسماء أن ” الحبر يهرب من أصابعي كلما حاولت نثره على صفحات روحي ” لكن المبدع دائما يشعر في أعماقـه بمثل هذا التعثر ، وإن كان الواقع غير صحيح . 
من يتصل بالشاعرة أسماء مباشرة لينصت إلى حديثها ويستمع إلى أشعارها يجدها امرأة مختلفة ، فهي مقبلة على الحياة ، روحها مرحة وهي تقتنص اللحظات السعيدة مع مجالسها ، لقد أتيحت لي الفرصة لمجالستها ، تنجح في استقطاب السمع إليها وتجهد في الإقناع ما ستطاعت بمرح وحبور ،إنها ذات سحر خاص في علاقتها بالآخر ، خيالها الخصب لا ينضب معينه تعليقا أو إضافة أو طرفة ، تعشق الكلمة الشاعرة وهي تقرأ شعرها ، وتشعر المستمع بما لوقع نبض الكلمات من حضور في شعرها ، ومن ثـم يتردد في ذهني السؤال الآتي ؟ لماذا تعيش الشاعرة في قصائدها غير ما تعيشه في الواقع 
المحسوس ؟ من ذلك ما تبوح به في ديوانها : 
4 ـ صــلاة عشـتـار : جاء في الإهـداء : ” إلى روح أسلافي القدماء ، التي تحـلق في سماء حاضري ، أستمد منها سـر وحيـي وإلهامي ” 
تقول في قصيدة عنوانها ” قصاصات ” من ديوانها ” صلاة عشتار ” ص 44 :
أرحل من نفسي إلى نفسي 
لا هـمّ يـلاحق 
ولا وهـم سـكن 
العدم الموجود ورقة بيضاء 
لـوّثـتها السطور
وتاريخ الفلاح مـحته السنون 
تآكـلت الشواطئ ، تداخلت السواحل 
تـاهت الأقدام 
إلى أين المرتحل ؟
نحن لا نعرف بالضبط أين نـكون 
لماذا هذا التساؤل المريب ؟ لماذا هذا الحزن الدفين في الأعماق ؟ مسحة الحزن لا تفتر تنبعث من حين لآخر في ثنايا القصيد ، تهرب من نفسها فلا تجد غير نفسها ملجأ ، حلقة مفرغة وهي تبحث عن بديل ، وهي ترصد التاريخ والأزمنة ، أين الخلاص يا ترى ؟ تتساءل : ص 46 
أهي الأقـدار تشـكـلني ؟ 
تتـلو عليَّ ترانيم الأمـل 
تريدني أنـثى صامتة 
يستخف بها الصخب 
وتـلك الحسرات 
تناغي روحي الثـكلى 
لأسكت صراخ الريح 
في وجه أقداري 
وأحافظ على شموخي
وأخـفي في داخلي أحزاني 
تمسك الشاعرة بخيوط قدرية لـتـتــحدث عن واقع مهزوز يسعى إلى إخماد صوت الأنثى ، يريدونها أنثى صامتة ،لكن الأنثى في أعماقها تتحدى وتعمل على مواجهة القدر بشموخ وكبرياء ،متجرعة أحزانها ولوعتها في صمت كي لا تشعر بشماتة القدر فتبقى الكلمة الشاعرة رصيدها في كل الرهانات مبددة سحب الأحزان والآلام ، تقول ص 47 : ( ديوان صلاة عشتار ” 
أمسك بالقلم 
وبجانبي كوب من القهوة الساخنة 
أثرثر الآن مع نفسي 
هكذا يمارس قلمي جنونه 
لكن عقلي يتغلب عليه 
ليثبت هو الآخر جنونه 
فالقلم وسيلة الشاعرة المنجية من كل العذابات والآلام ، يمارس غوايته بجنون ، لكن الشاعرة في كل مرة تنذر بما للعقل من قوة رادعة بجنون الغلبة ، ومن ثـم يحصل التوازن بين ما هو عاطفي وما هو عقلي ، إنها الحكمة في التصرف والحكي عن الباطن والظاهر ، الخيال والواقع . 
هـوس الكتابة واقع لا يناقش في أشعار أسماء ، فهي تعانق القلم في كل وقت ، تبثـه أشجانها وتبوح له بما يؤرق جفنها ويؤذي مشاعرها ، خلجات قلب أضناه الواقع ، وتحـدّ يؤجـج في أعماقها بذور الثورة في اكتشاف الحقيقة ، تقول ص 51 :
حين نفارق من نحب نشعر في داخلنا 
أن الحياة لحظة فـراغ 
وأن الفـراغ منـزو في متاهـة 
لا يعرف الخروج منها 
وأن الخروج منها رحلة طويلة من عذاب 
فعلينا أولا الخروج من الغياب 
وإخراج الغياب من داخلنا 
ثم الخروج من داخل الغياب 
وهكذا تستمر الرحلة الطويلة 
إلى أن نـمـلّ أو نرضى بالعيـش 
في غياب الفراغ 
هكذا تكثر الفراغات ، وتـلتوي المتاهات ، فمهما حاول المرء التخلص من الغياب ومن العذاب ، فلن يستطيع شيئا ، إنه التشاؤم من تخطي الغياب والإشراقة نحو الأفضل ، أو الرضى بالقدر والعيش في غياب الفراغ ، والوعي بهذه الرحلة الموغلة في فضاء الغياب يتربع في حشاشة ضمير البشر إن آجلا أو عاجلا . 
وعلى الرغم من أن المسار يكاد يكون واحدا لمن تسكنه ظروف حياة قاسية ، وواقع مـرّ ، حيث يتيه المرء في دياجير مظلمة لا نهاية لها ، لكن قد يكون لبصيص الأمل حيّـز في الوجود ، نتنـسّم من خلاله عطرا ينعشنا ، ونسيما نديـا يبعث فينا رغبة في الانتشاء بالأحلام وإن كانت في اليقظة ، سؤالي : لماذا تسكن روح الشاعرة هواجس الغربة والأحزان ، لا يبددها سوى القلم ، فهو الوسيلة الأكثر حميمية والتصاقا بالشاعرة ، به تتحدى ، به تنعش الروح ، به تحيا وتموت ، تقول : ص 54 
على شاهدة قبري 
حين أموت 
لا تكتبوا اسمي 
بل سطروا حكاية عمري 
وانقشوا عليه 
عشقت ورقا ، وماتت غرقا داخل محبرة 
هنا ترقد إنسانة 
ما أروع هذه القطعة الشعرية في رمزيتها وقوة تعبيرها وجمال أسلوبها ، كيف تختال الشاعرة بأريحية وجلال عتبة الكتابة ، فتموت غرقا داخل محبرة ، 
لحظات جميلة ودافئة عشتها وأنا أقرأ بعضا من قصائد الشاعرة المبدعة ، ووجدت في تغريداتها وتلويناتها منحى آخر للحديث عن الوجود وعن الذات وعن الآخر ، رؤيا فلسفية تجـلل ما استطعت قراءته والانتباه إلى مقاصده ، حس مرهف ، ولغة صافية مشرقة ، وأخيلة في المتناول على الرغم من رمزيتها ، وصور شعرية تكشف عن سبر أغوار ثقافة شاعرة مختلفة ، نجحت في أن تكون غيرها من الشاعرات ، حيث يكثر الشعر ويقل ماء الشعر ، فكانت الشاعرة الحق في بهاء وإشراق . 
أسماء القاسمي شاعرة يتدفق ماء الشعر سلسا في ثنايا قصائدها المبنية على المقاطع أو المقطوعات ، نجحت في لملمة مشاعرها والتعبير عن عواطفها وأحاسيسها ، بعفوية وصدق ، ولعل ما كانت تشعر به وهي تـنـثـر رحيق شعرها بين قرائها هو ما جعل للقصيدة الشعرية القاسمية طعما لذيذا ونكهة مختلفة وهما ما بـوآها في نظري مكانة الشاعرة التي نطمح إلى سماع صوتها وترديد أشعارها بشغف وحب . 
حياك الله وبياك ، يا من أبحرت في عالم الشعر ببهاء وشموخ ، ويا صاحبة الدواوين الرائقة والأنيقة . 
من دواوين الشاعرة أسماء القاسمي المنشورة :
صلاة عشتار :طبعة 1 / 2008 / دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر / دمشق 
في معبد الشجن / ط1/ 2008 ، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر / دمشق 
شذرات من دمـي / ط 1/ 2009 ، مطبعة انفو برانت / فاس 
هواجس الندى : ط1/ 2014 / دار الياسمين للشر والتوزيع ،
طيرسون الحنين : ط1/ 2013 / دار الرمك ، بيروت 
أنا هاهنا : صدر بالمغرب ، وأظن بمدينة فاس ، لكنه خال من السنة ومن دار النشر 
ولها ديوان لم أطلع عليه عنوانه شهقة عطر / دار التوحيدي / 2012 / الرباط . 

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *