*عبد الحليم أبو دقر
( ثقافات )
نجح «أبو ساعة» أخيرا في نقل اسمه من القائمة (ب) إلى القائمة (أ) محققا حلمه الذي انتظره طويلا بأن يصبح أحد أفراد القائمة (أ)، سيؤجل «أبو ساعة» إلى يوم غد الاحتفالات بهذا الإنجاز العظيم، عليه الآن أن ينام ويصحو مبكرا ، يفتح دكانه الجديدة التي يبيع فيها الدجاج الحي، اشتراه قبل أيام على مدخل المخيم في جناعة.. إلا أن اسم «أبو ساعة» عاد واختفى من القائمة (أ) وظهر في القائمة (ب) من جديد.انهارت أعصاب «أبو ساعة»، صار يصرخ مطلقا أقذع الشتائم على من أعاده إلى القائمة (ب).. ظهر أحد الحراس، شرح له «أبو ساعة» ما حصل، ردّ عليه الحارس: «أنت كذّاب، أيقظتني من أحلى غفوة من حلم كنتُ..»، قاطعه «أبو ساعة»: «لا، أنا أ، أنا اسمي مع القائمة أ، وأحدهم شطبه وحضرتك نائم تحلم».
– أنت في كل عمرك ما كنت أ، أنت ب، من شكلك أنت ب، اقلب وجهك، أريد أن أنام..
اندفع «أبو ساعة» باتجاه القائمتين:
– سأرفع الخط الفاصل بينهما، وأخلط أ مع ب وأخرب بيتك.
– لن تتمكن من زحزحة الخط الفاصل بينهما مليمترا واحدا، أ ستبقى أ وب ستبقى ب، وأنت ستبقى غبيا، وأنا ضجت منك.
وأخذ يضرب «أبو ساعة»، دعس عليه في كل الأماكن:
– مهما فعلت، مهما ولولت، لن تكون في يوم من الأيام أ، أنت ب، وستموت ب.
ظلّ «أبوساعة» يصرخ بأعلى صوته: أنا أ، أ..
دخل والده عليه وهو نائم، صفعه على وجهه:
– اصحَ يا حقير، اصح، حرَمْتَنا النوم الليلة، غير أحرمك الحياة.. مفكر لأنك فتحت نتافة دجاج صار من حقك تقلق راحتنا..
نادى على ابنته، طلب منها أن تحضر له كيس جوز حَبّ والشاكوش:
– إلا أكسر كل كيس الجوز على رأسك، حبة حبة، لو ظليت قاعد للصبح، لن أنام الليلة،
لا تفكر لأنه صار عندك نتافة دجاج، وصرت تورّد صيصان مريضة للمستشفيات الهاملة، مسموح لك تقلق راحتنا وتحرمنا النوم…
كان «أبو ساعة» شبه غافٍ في دكانه عندما دخلت إليه مديرة منزل بنت الوزير، أوصته على كمية من الدجاج، عندهم الليلة حفلة.. أعطت «أبو ساعة» العنوان حتى يوصلها لهم. قال «أبو ساعة» لنفسه وقد بدأ يستيقظ: «هذه هي العالم الـ أ، أسهل شيء التفاهم معها، يعطيك حقك وفوقه إكرامية، ولا تتوقف عن التبسم في وجهك، أ تظل أ، طول عمري أتمنى أن أكون واحدا منهم، طول عمري أتمنى أن أحضر حفلاتهم.. كيف تسير الأمور في قصورهم؟! لو أنني أحد المدعوين إلى هذه الحفلة عند بنت الوزير، عندها لن أغادر دارها قبل أن أرتب كل أموري، لن أغادرها قبل أن أصير واحدا منهم».
رفع «أبو ساعة» يديه للسماء، انهال بالدعاء: «يا رب ساعدني، مَكّنّي، مسّكني طرف الخيط والباقي عليّ.. يا رب، رتب لي طريقة أحضر فيها حفلة بنت الوزير، يا رب.. بجاه حبات الجوز القاسية التى كسرها أبي على رأسي.. بجاه.. اجعلني أدخل عندهم، واترك الباقي عليّ».
حمل «أبو ساعة» طلبية الدجاج، انطلق بها لبيت بنت الوزير، فتحت له مديرة المنزل الباب على مصراعيه، ابتسمت في وجهه، سألته عن أخباره وهي تستلم منه الدجاج. عبرت من خلفها فتاة قمة في الجمال، فتن «أبو ساعة» بها، لم يستطع رفع نظره عنها. قالت له مديرة المنزل: «سيدتي الصغيرة بنت الوزير، أأعجبتك لهذه الدرجة؟ تريد أن تسلّم عليها؟».
– أنا؟! يا ريت, أريد أن أرتمي تحت قدميها، أريد أن أقبّل الرخام الذي تمشي عليه.
– اسهر معنا الليلة، أرتب لك مكانا مناسباً، قريباً من سيدتي الصغيرة..
– لن أنسى هذا الجميل لك طول العمر.
أجلسته في الصالون الفخم الواسع. التف الخدم حول «أبو ساعة» يهيئون له المكان، يملأون المناضد أمامه بكل ما لذ وطاب. أخذ «أبو ساعة» يقول لنفسه: «هذا هو مكاني الطبيعي، أ، هذا هو المكان الذي آخذ فيه وضعي الـ أ، المكان الذي تظهر فيه إمكانياتي، هذه هي البيئة التي أنتمي إليها بشكل حقيقي، أنا أ، ولا أرتاح إلا في أ، هنا لا أشعر أني غريب كما أشعر في دار أهلي، هؤلاء هم أهلي الحقيقيون».
همست مديرة المنزل في أذنه: «يظهر أنك معتاد على هذه الأجواء، تعجبني طريقة تصرفك».
قال لها «أبو ساعة»: «هذه يا سيدتي أجوائي أنا». كانوا قد بدأوا يرشون معقمات وملطفات جو وعطور و «كولونيا» حول «أبو ساعة»، وتساقط الجزء الأكبر منها عليه، تحديدا فوق رأسه.. بعدها تقدمت بنت الوزير منه وهي ترتدي (بَدِي) ساحراً يُظهر مفاتنها، له فتحة كريمة عند الصدر، وتنورة تشكو من الضيق والقصر..
قرفصت بنت الوزير قبالة «أبو ساعة» تدقق النظر في وجهه، ترقّص حاجبيها وهو صافن فيها، ثم قالت له فجأة: «قلدني في كل حركة أقوم بها، بسرعة، بسرعة قلدني».
فشل «أبو ساعة» في تقليد بنت الوزير، فباغتته بصفعة قوية تطاير لها الشرر من عينيه. انطبعت أصابع بنت الوزير على خد «أبو ساعة» الأبيض.. غادرت بنت الوزير، أخذت مكانها مديرة المنزل، قالت لـ» أبو ساعة»: «اصبر، يبدو أنها أحبتك.. روّق ، قلبها طيب سيدتي الصغيرة، انظر إلى ما هو خلف هذه الصفعة، أرادت سيدتي الصغيرة أن ترفع الحواجز بينكما بطريقة مبتكرة، ستشعر بعد قليل أنك تعرف سيدتي الصغيرة منذ زمن».
ردّ «أبوساعة»: «ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب، ومن أجل الوصول إليها، سيتحمل (أبو ساعة) الأهوال، ما بالك بصفعة مثل هذه. أنا زعلان على الخد الثاني الذي أدرته لها وعفتْ عنه، كان نفسي تنطبع أناملها عليه، أنا أحب العدالة، أحب المساواة، أتمنى لو أن هذا الأثر يظل وشما على خدي حتى يصير الناس يقولون: أين راح أبو خد أحمر وخد أبيض؟ أين اختفى أبو خد بأصابع، وخد دون أصابع».
قالت له مديرة المنزل: «لا تقلق، على كل حال السهرة بأولها، لا تستعجل على شيء،
إن سيدتي الصغيرة تعشق الضحك، تكرة العبوس، تموت من التكشيرة، تعتبرها عدوها الشخصي».
ردّ «أبوساعة»: «لن تجدني سيدتك إلا فاقعا من كثرة الضحك».
التقطت بنت الوزير ريشة دجاجة عن أرض الصالون، جالت بنظرها في الحضور، ثم أقرّته على «أبو ساعة»، سألته بالإشارات: «هذه منك». ردّ «أبو ساعة»: «لا!».
أغمضت بنت الوزير عينيها، دارت حول نفسها ثلاث دورات وهي تقول: «أريد أن أستدل على مصدر هذه الريشة عن طريق أنفي».. ظلت تمشي مغمضة العينين إلى أن وصلت إلى «أبو ساعة». جلست بجانبه على الكنبة: «أنت من أوصل ريش الدجاج إلى قصري، لا تنْكر». مدت يدها خلف رقبة «أبو ساعة»، وأخرجت ريشة ثانية..
أراد «أبو ساعة» أن يشرح لها أن النتافة تعطلت فجأة، ورغبة منه بأن يفي بالتزاماته، خاصة التزامه معها، اضطر أن ينتف هو الدجاج بيديه.. وضعت بنت الوزير كفّها على فم «أبو ساعة»، منعته من الكلام, طلبت منه أن ينزع ثيابه فوراً:
– عندي ماكينات حديثة، قبل أن تكمل كأسك ستكون ملابسك جاهزة، تعقيم وغيره، إذا خجلان أحضر لك غطاء..
أشارت مديرة المنزل لـ «أبو ساعة» بعينيها: «لا». قال «أبو ساعة»: «لا، مش إشكال». صفق له الحضور..
عادت بنت الوزير ومرت من أمام «أبو ساعة» وهي تبتسم له، ثم اقتربت منه فجأة:» ما زالت الرائحة موجودة». لامست برأسها رأسه، أشارت بيدها، فحضر الخدم، وبيد أحدهم مقص، إلا أن بنت الوزير أعادته. طلبت أن يحضروا موسى، وقالت لـ «أبو ساعة»: «لن تحل المشكلة بالمقص», قال لها «أبو ساعة» وهو يهزهز رأسه: «كلامك ذهب». هنا بدأت بنت الوزير بنتف شاربي «أبو ساعة»، ونتف حاجبيه وهي تقول له: «احترس، النتف مؤلم». تألم «أبو ساعة» كثيرا، وأوشك على البكاء. قالت له بنت الوزير: «أعرف أنك لن تتحمل». نهضت. طلبت من الخدم أن يستكملوا النتف الذي بدأته بالموسى، صار شكل «أبو ساعة» أقرب ما يكون إلى «أبو بريص» وقد ضربه أحدهم بحذاء، فتلون بألوان جديدة مع ألوانه السابقة. كان «أبو ساعة» لامعا مبرقشا تحت الأضواء القوية المشعة في صالون بنت الوزير التي اقتربت منه، وأعلنت للجميع: «هذا هو الشكل الذي أحبه، هذا هو عفريتي.. أمامكم جميعا، إذا تمكن (أبو ساعة) من الإمساك بي سأكون له، يفعل في ما يشاء». تعالت الهتافات، ارتفع التصفيق، تقدم أحد الحاضرين يضع في فمه سيجارا، ويحمل بيده كأسا، قائلا: «عندما يصل العَدّ إلى ثلاث، تنطلقوا».
سبقت بنت الوزير «أبوساعة» بالركض، دخلت في ممر، لحقها، فوجد «أبو ساعة» نفسه في الشارع عاريا منتوف الشعر. انهال الناس عليه بالضرب وهو يقول: «سأشرح لبنت الوزير في المرة القادمة أن النتافة تعطلت، أنا من نتفت الدجاج الذي يستمتعون بأكله الآن بيدي. سأكون قريبا منك يا بنت الوزير مهما طال الزمن، سأكون واحدا منكم، سأكون أ بأسرع ما يمكن».